اللّه حكيم في أفعاله
السيد جعفر الشيرازي
2024-05-04 05:44
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ}(1).
إن اللّه سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان، وهو المالك المطلق له، وأزمّة الأمور كلها بيده، فهو المهيمن على الوجود كله، وبيده التكوين، أي: الخلق والتدبير، كذلك التشريع بيده؛ ولأنه حكيم لذلك خلق الأشياء بحكمة، وشرّع الأحكام بحكمة؛ لأن الحكيم من الإحكام، ومن لوازم الإحكام وضع الشيء في موضعه، فإذا وضعت شيئاً في غير موضعه فهذا خلاف الحكمة، لكنك إذا وضعت الشيء في موضعه فهو الحكمة، واللّه سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وقادر على كل شيء؛ لذا فكل صُنعه بإتقان وحكمة، وكل تشريعه بإتقان وحكمة، قال تعالى: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ}(2)، وهذا لا يعني أنه لا يوجد اختلاف في الموجودات، بل الاختلاف فيها أمر بديهي، وإنّما المراد من ذلك أنه لا يوجد خلل في صنع اللّه سبحانه وتعالى.
لكن مصنوعات البشر قد يكون فيها خلل، لذا نلاحظ بين فترة وأخرى أن أعظم المصانع في العالم تسحب منتوجاتها من الأسواق؛ وذلك لظهور خلل فيها، مع أنه يوجد عندهم أفضل المهندسين والخبراء، ومع كل ذلك فقد يوجد هناك خلل، فقد يغفلون عن بعض المسائل فيتبين لهم الخلل، وبعد ذلك يصلحون ذلك الخلل.
وسبب ذلك قد يكون عدم العلم وعدم التفاتهم لزاوية من زوايا المنتج.
وقد يكون سبب الخلل هو عدم تمكن الإنسان من إنتاج الأفضل. وفي بعض الأحيان يكون هناك خبث في العمل، حيث يتمكن الصانع من الأفضل لكنه يريد أن يضرّ الطرف المقابل، أو يريد أن يستغلّه.
لكن اللّه سبحانه وتعالى هو العالم الغني القادر اللطيف، فهو المستجمع لكل الكمالات، وهو منزّه عن كل نقص؛ لذا يكون صنعه أحسن الصنع: {فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ}(3). وكذلك الحال في التشريع.
لذا فلا يوجد أي خلل، وإذا وجدنا خللاً فإنّما هو بسبب الإنسان، قال تعالى: {ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ}(4).
حكمة جعل الواسطة بين اللّه والخلق
هناك شبهة تطرح، وهي: إنه لماذا جعل اللّه سبحانه وتعالى واسطة بينه وبين الخلق، حيث جعل الأنبياء (عليهم السلام) واسطة؟ ألم يكن اللّه سبحانه وتعالى قادراً على أن يوحي إلى كل إنسان، كما فعل ذلك بالنسبة إلى الملائكة، حيث إنهم يتلقّون أوامرهم من اللّه سبحانه وتعالى مباشرة، وبدون واسطة؟
فلماذا لا يوحي اللّه سبحانه وتعالى إلى كل إنسان مباشرة وإنّما اختار وسائط؟
والجواب على ذلك هو: إن اللّه سبحانه وتعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها، وحَمْلُ الرسالة الإلهيّة يحتاج إلى قابلية، وهذه القابلية لا توجد في عامة الناس، وحينئذٍ الوحي إليهم من غير قابلية خلاف الحكمة، مثلاً لو كان هناك إنسان ضعيف عاجز فلو حمّلته متاعاً بوزن مائة كيلو بما هو فوق طاقته، فهذا خلاف الحكمة.
والرسالة الإلهيّة عظيمة، فلا يتمكن الإنسان العادي أن يتحمل هذه الرسالة العظيمة، فلذا يختار اللّه تعالى من يتمكن من حمل هذه الرسالة، ثم يبلّغها للآخرين.
وهذا أسلوب الحكماء، وهو أسلوب عقلائي، فكل واحد بعقله يدرك هذا الأمر، فاللّه سبحانه وتعالى اصطفى أناساً وجعل فيهم القابلية لحمل هذه الأمانة العظمى؛ لذا اختار الأنبياء (عليهم السلام)، والأئمة (عليهم السلام) بأن خلقهم بكيفية يكونون قابلين لتحمل رسالته، وهذا هو الاصطفاء والاجتباء.
ومن باب تقريب الفكرة نقول: إن اللّه سبحانه وتعالى عندما خلق الحديد خلق فيه قابلية لحمل الأثقال العظيمة؛ لذا فالأبنية العظيمة إنّما يكون أساسها من الحديد، وأمّا التراب فلم يجعل له تلك القابلية؛ لأن له دوراً آخر.
فلو أننا اجتمعنا وقلنا: إننا من خلال الانتخاب نختار لنا نبياً أو إماماً فهل هذا ممكن؟
إن هذا الأمر غير ممكن؛ لأن هذا من الأمور التي لم يفوّضها اللّه سبحانه وتعالى لأحد، بل هي من الأمور الخاصة باللّه سبحانه وتعالى حيث قال: {وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَـا يَشَآءُ وَيَخۡتَـارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ}(5). ولو أن إنساناً قال: لي حق اختيار الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فهو من الشرك الخفي؛ لأن معنى الشرك هو أن يكون هناك شيء خاص باللّه ثم ينسبه أحد لغيره، فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يختار الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) حصراً، ولم يفوّضه لغيره، حتى لرسول اللّه محمّد (صلى الله عليه وآله)، فاختيار الإمام ليس بيده، فهو لم يختر علي بن أبي طالب (عليه السلام) أميراً للمؤمنين، وإنّما اختاره اللّه سبحانه وتعالى، والرسول بلّغ ذلك، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ}(6).
نعم، إذا فوض اللّه سبحانه وتعالى شيئاً من الأشياء إلى عبد من عبيده، فهذا ليس بشرك، فقد كان عيسى (عليه السلام) يخلق من الطين طيراً بإذن اللّه قال: {أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ}(7)، فلو أن شخصاً قال: إن عيسى (عليه السلام) خلق ذلك الطير بإذن اللّه فهذا ليس شركاً؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاه قدرة خلق الطير، نعم، إذا قال شخص: إن عيسى (عليه السلام) يخلق الأشياء بقدرة من نفسه فهذا من الشرك الجليّ.
ولو أني حركت يدي وقلت: هذه الحركة بقدرة من نفسي فهذا شرك، وأمّا إذا قلت: إن هذه القدرة من اللّه، حيث جعلني قادراً مختاراً، فلذلك أنا أتمكن من تحريك يدي، فهذا هو عين الإيمان، وليس من الشرك في شيء.
إن اللّه سبحانه وتعالى عندما أراد أن يختار أناساً لحمل رسالته جعل فيهم هذه القابلية من يوم أن خلقهم، وليس أنه خلقهم أوّلاً ثم بعد ذلك جعل فيهم القابلية، كلا، بل تلك القابلية جعلها حين خلقهم، يزعم البعض أن رسول اللّه محمّداً (صلى الله عليه وآله) أصبح نبياً وعمره أربعين عاماً. إن هذا ليس بصحيح، فالنبي (صلى الله عليه وآله) بُعث بالرسالة وعمره أربعون عاماً، وإلّا فهو نبي من اليوم الذي خلقه اللّه سبحانه وتعالى، وقد أشار (صلى الله عليه وآله) لذلك بقوله: «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين»(8)، ففي اليوم الذي خلقه اللّه سبحانه وتعالى نوراً حول العرش كان نبياً.
نعم، حينما جاء إلى هذه الدنيا لم يكن مأموراً بالتبليغ من اليوم الأوّل، بل هو ساكت بأمر من اللّه سبحانه وتعالى، وغير مكلّف بأن يبلّغ، وعندما بلغ الأربعين عاماً أمره اللّه سبحانه وتعالى أن يبلّغ بالتدريج، قال تعالى: {وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ}(9)، إلى أن قال: {قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا}(10)، فالتبليغ إنّما حصل بالتدريج، وكذلك سائر الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
لذا حينما نلاحظ روايات الطينة نجد أن الجمع بينها يقتضي أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الرسول وأهل البيت (عليهم السلام) أشباح نور، محدقة بالعرش، وبعد أن خلق الملائكة تعلّمت منهم التسبيح والتهليل، ثم خلق أجسادهم من أعلى عليّين وعندما خلق اللّه سبحانه وتعالى آدماً (عليه السلام) وأمر الملائكة أن يسجدوا له عصى إبليس فخطابه قائلاً: {أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ}(11)، فعن أبي حمزة قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «إن اللّه خلق محمّداً وعلياً وأحد عشر من ولده من نور عظمته، فأقامهم أشباحاً في ضياء نوره يعبدونه قبل خلق الخلق، يسبحون اللّه ويقدسونه، وهم الأئمة من ولد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)»(12).
وعن أبي سعيد الخدري قال: «كنا جلوساً مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل إليه رجل فقال: يا رسول اللّه، أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ لإبليس: {أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ} فمن هم يا رسول اللّه الذين هم أعلى من الملائكة؟ فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين، كنا في سرادق العرش نسبح اللّه وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن خلق اللّه عزّ وجلّ آدم بألفي عام، فلما خلق اللّه عزّ وجلّ آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود، فسجدت الملائكة كلهم أجمعون إلّا إبليس فإنه أبى أن يسجد، فقال اللّه تبارك وتعالى: {أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ} أي: من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش»(13).
مقامات النبي وأهل بيته (عليهم السلام)
إن بعض الناس ينكر مقامات الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، حيث يستدل على ذلك بقوله تعالى: {قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ}(14)، فيتصوّر أن الرسول (صلى الله عليه وآله) بشر مثلنا في كل شيء، بينما تريد الآية أن تشير إلى جهة معينة، وهي أن الرسول (صلى الله عليه وآله) مثلنا من جهة تركيبته الجسدية، قال تعالى: {وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدٗا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ}(15)، وقال في آية أخرى حول عيسى ومريم: {مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ}(16)، فتركيبتهم الجسدية هي كسائر الناس؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يريد لهؤلاء أن يكونوا أسوة للناس وقدوة، والأسوة والقدوة يلزم أن تكون تركيبته مثلهم، يأكل وينام ويتزوج ويولد ويصاب بالهرم والمرض، حتى يمكن أن نقتدي به، وإلّا إذا كان ملكاً من الملائكة فلا يمكن الاقتداء به؛ لأن الملك قد يسجد سجدة واحدة تطول عدة سنين. لذا جاء في آية أخرى: {وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ مَلَكٗا لَّجَعَلۡنَٰهُ رَجُلٗا وَلَلَبَسۡنَا عَلَيۡهِم مَّا يَلۡبِسُونَ}(17)، فلو أن اللّه سبحانه وتعالى قدّر أن يرسل من الملائكة نبياً إلى الناس لأرسله بصورة إنسان، لكي يمكن الاقتداء به وهذا لا يعني التماثل في الفضائل، بل الأنبياء والأئمة اصطفاهم اللّه تعالى وعصمهم وحلّاهم بالكمالات وبرّاهم عن النقائص.
والذين يريدون التنقيص من شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) إنّما ذاك لجهلهم أو لحقدهم على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وقد بدأ هذا الأمر من زمن بني أمية وأتباعهم، حيث حاولوا إنزال النبي (صلى الله عليه وآله) عن مقاماته العالية، وذلك لحقدهم عليه؛ لأنهم حاربوه عشرين عاماً فانهزموا يوم فتح مكة؛ لذا أظهروا إسلامهم نفاقاً وحفظاً على أرواحهم: {وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ}(18)، وقال تعالى في وصف المنافقين: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ * يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواۡ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ}(19)، فهؤلاء كانوا يحقدون على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، إلّا أنهم لم يتمكنوا أن يظهروا حقدهم عليه (صلى الله عليه وآله) بشكل مباشر، فأظهروه في وضع روايات كاذبة تهدف إلى التنقيص من قدره، وكذلك أظهروا حقدهم على الرسول (صلى الله عليه وآله) في أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكل من كان يريد سبّ الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يسبّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، مع أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من سبّ علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سبّ اللّه عزّ وجلّ»(20).
وأحياناً كان التنقيص من مقامات النبي (صلى الله عليه وآله) لأن بعض الحكام كانت لهم تصرّفات سيئة، فكانوا يريدون تبرير تصرفاتهم فكانوا يعطون أموالاً لبعض الكذابين والوضاعين فيضعون أحاديث مكذوبة على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله). وقد روي: «أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ}(21)، وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ}(22)، فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك»(23).
قال ابن أبي الحديد: «وقد صحّ أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي (عليه السلام)، وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتى إن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله، بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: عن أبي زينب. وروى عطاء، عن عبد اللّه بن شداد بن الهاد، قال: وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوماً إلى الليل، وأن عنقي هذه ضربت بالسيف»(24).
وقد ألّف النسائي كتاباً في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): «فإنه بعد أن ترك مصر في أواخر عمره قصد دمشق ونزلها، فوجد الكثير من أهلها منحرفين عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأخذ على نفسه وضع كتاب يضم مناقبه وفضائله (عليه السلام) رجاء أن يهتدي به من يطالعه أو يلقى إليه سمعه، فأتى به وألقاه على مسامعهم بصورة محاضرات متواصلة. وبعد أن فرغ منه سئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس حتى يفضل؟ وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا: لا أشبع اللّه بطنك، فهجموا عليه وما زالوا يدفعون... وداسوه حتى أخرجوه من المسجد، فقال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها، فتوفي بها»(25).
أهل البيت هم القدوة في كل شيء
إذا أراد الإنسان أن يأخذ العلم الصحيح، والتفسير الصحيح للقرآن، والعقيدة الصحيحة، والأخلاق السليمة فعليه أن يأخذها من المنبع الصافي، الذي كان حامل العلوم التي أفاضها اللّه سبحانه وتعالى، وهو أمير المؤمنين علي وأهل بيته (عليهم السلام). فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «كلما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(26).
وعنه (عليه السلام) أنه قال لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرقا وغربا فلا تجدان علماً صحيحاً إلّا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت»(27).
فالأئمة (عليهم السلام) بينوا كل الحقائق الدينية، فكل شيء من أمور الدين لم يخرج منهم فهو باطل؛ لذا نحن نرى المبطلين إلى اليوم يحاربون الأئمة (عليهم السلام)، فهم بالظاهر يحاربون الشيعة ويقتلونهم ويرتكبون الجرائم بحقهم، إلّا أن هدفهم الحقيقي هو محاربة الأئمة (عليهم السلام)، لكنهم لا يتمكنون من الجهر بذلك، مثلهم مثل المنافقين الذين كانوا في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله)، حيث لم يتمكنوا من أن يقولوا لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله): إنك لست نبياً، ولكنهم كانوا يبطنون ذلك، فهم يعبدون الأصنام في واقعهم، ويظهرون الإسلام لرسول اللّه والمسلمين، ولذا قال تعالى: {إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ}(28)، فعبارة: {إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ} ليس كذباً، وإنّما هو صحيح، لذا قال اللّه: {وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ} إلّا أن الكذب في أنهم لا يعتقدون بهذا الكلام، فهو مجرد كلام يقولونه.
إن البعض كان يبغض أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد أشار القرآن الكريم لذلك بقوله: {وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِۚ}(29)، حيث فسرت هذه الآية ببغضهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)(30)، فعندما يتكلم بعضهم نرى أن كلامه جميل إلّا أن البغض موجود في قلبه وفي كلامه، فالكلام يعكس ما في القلب(31).
والحاصل: أن اللّه سبحانه وتعالى اختار الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وجعل لهم قابلية تحمل الرسالة وعصمهم، فكل كلامهم صحيح، وكل كلام لم يخرج منهم فهو باطل، فيجب علينا أن نأخذ عقائدنا وأحكامنا وأخلاقنا منهم؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى جعلهم أئمة في كل شيء، وعندما نقول: (إنه إمام) فليس معناه أنه حاكم، فالحكومة منصب من مناصب الأئمة (عليهم السلام)، إلّا أنهم أزاحوهم عنها، وإنّما نعني بالإمام هو كونه إماماً في كل شيء: في الأخلاق والفقه والعقائد والسيرة وفي كل شيء. وأمّا الإمامة السياسية والسلطة والحكومة فهي إحدى مناصب الإمام، فيجب أن نأخذ منهم، ولا نبالي بما يقول هذا وذاك؛ لأن كلامهم نور وحق.
إننا نرى اليوم أن أصوات المعارضين لأهل البيت (عليهم السلام) مرتفعة في العالم، حيث يصرخون: بأن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بدأ يكتسحهم، مع أن السلطة بأيديهم، والأموال عندهم، وهم يستعملون الإرهاب، وعندهم الفضائيات وبأيديهم الإعلام، فإذا كانوا كذلك فلماذا يخافون من أقلية مضطهدة لا يملكون المال، وليس عندهم إعلام قوي، إلّا القليل، وهم مضطهدون في كل مكان؟ فهل الحق القوي يخاف من الباطل الضعيف؟ ولماذا ذاك القوي في كل شيء يخاف من هذا الضعيف في كل شيء؟
والجواب: أن هذا الضعيف هو الحق وهو الصحيح، وإن لم تكن بيده سلطة، ولا يملك مالاً كثيراً، وإعلامه ضعيف، والحق يعلو ولا يعلى عليه، وهذا هو السبب في خوفهم وصراخهم، وإلّا فلماذا لا يصرخون ضد النصارى، مع أن أموال النصارى أكثر، وإعلامهم أقوى، وكتبهم تطبع في كل مكان، ومواقعهم أكثر وهم المسيطرون سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على العالم؟ وذلك لأن النصرانية ليست على حق، نعم إنهم يمتلكون كل القوى ولكنهم على باطل.
إذن، فالضعيف الحق لا يخاف من القوي الباطل، والقوي الحق لا يخاف من الضعيف الباطل بطريق أولى، ولكن إذا شاهدنا القوي يخاف من الضعيف؛ فلأنّ الضعيف هو على الحق، والحق ينفذ دائماً وينتصر.
فعلينا أن نعلم أن اللّه سبحانه وتعالى حمّل الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) هذه الرسالة العظيمة، وجعلهم قابلين لذلك، ولهم المقامات العالية، وهذا هو أقل شيء نقوله بحقهم؛ لأن الرسول والأئمة (عليهم السلام) لم يبنوا للناس كل شيء، فقد لا يتحمل الناس ذلك؛ لذا قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «لولا أن طائفة من أمتي يقولون فيك ما قالت النصارى في أخي المسيح لقلت فيك قولاً ما مررت على ملأ من المسلمين إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك، والماء من فاضل طهورك، فيستشفون به، ولكن حسبك أنك مني وأنا منك، ترثني وأرثك وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي، وأن حربك حربي وسلمك سلمي»(32).