عودة الدين ومكث الدين
حكمت السيد صاحب البخاتي
2017-11-23 05:45
لا يمكن الحديث عن عودة الدين في حياتنا، فالدين حاضر في عالمنا ولم يشهد الدين غيابا ظاهرا في منطقتنا، لكن الدين شهد تراجعا كاد ان يصل الى حد الأفول أو مغيب شمسه في عالم الغرب، من هنا صار الحديث عن عودة الدين ممكنا بعد طرد مستمر له من السياسة واقصاء من الحياة ونبذ من الفضاء العام.
ولم يكن نيتشه يتنبأ بقدر ما كان يعلن بلسان الغرب عن موت الاله واعلان خطاب الى العالم وليس مجرد نبوءة تتحدث عن كشف ذاتي، وفي تأكيد حالة الاعلان انه يقول "ألم تسمعوا جلبة حفاري القبور وهم يكفنون الإله.... لقد مات الإله! لقد مات الإله! ونحن الذين قتلناه"، لكن لماذا إعلان القتل للإله.... انه اعلان يكرس ادعاء الغرب بإزاحة الإله لغرض حيازة السلطة التي كانت بيد الله، سواء تلك التي تمثلت بسلطة البابا أو بسلطة الكتاب المقدس، أو السلطة التي يمكن ان يكرسها الايمان بالله حقيقة، وتكرس نهاية الاله بالقتل الفعل المتعمد والمقصود لحضارة الغرب الحديثة باتجاه هذه النهاية، فالإله يجب ان يقتل لأنه لا يموت باختياره، لأن الانسان يختار بقائه ولو لم يكن هناك إله فان الانسان سيصنعه، وهكذا عاد الآله الى الغرب مرة أخرى لان الانسان لايستطيع ان يحي بلا إله فليس بالخبز يحيا الانسان وحده وفق ما تمليه ثقافة الغرب المسيحي.
وبإزاء ذلك العود المفاجئ للإله عاد الغرب الى الجدل مجددا بشان الاله، وتجددت مفردات الله والايمان والالحاد في الجدل الثقافي والعلماني والديني في الغرب، ولعل ما لفت انتباه الغرب الى ذلك العود المفاجئ هو الحضور الرسمي والشعبي والاهتمام غير المتوقع في اوربا بوفاة بابا الكنيسة المسيحية في 2/ 4/ 2005م، فقد حضر تشييع جنازته أربع ملوك وخمس ملكات وما لا يقل عن 70 رئيس جمهورية ورئيس وزراء إلى جانب 14 رئيس ديانة مختلفة من العالم، وقدر عدد المشيعين من الاوربيين في روما بأربعة ملايين، وهي حالة لم تشهدها أوربا في تشييع رأس الكنيسة المسيحية منذ الطلاق بينها وبين الدين على أثر حركة التنوير والحداثة التي اجتاحتها خلال قرنين من الزمان.
لكن ذلك على الصعيد الاوربي العام أما على صعيد العالم فان الدين دخل النطاق العام واكتسب رواجا عاما وفارق موقعه المحدد في نطاقه الخاص الذي فرضته عليه الحداثة في الغرب، وصارت الجماهير المتنوعة تعير اهتماما وانتباها للدين وفق خوسيه كازانوفا في كتابه الاديان العامة في العالم الحديث، لكن كازانوفا يدمج هذا الرواج للدين في العالم بأحداث سياسية كبرى اسلامية ومسيحية في آسيا واوربا وأميركا اللاتينية، وهي ثورة ايران وحركة التضامن في بولندا وزعامة قس مسيحي للثورة في رومانيا ودور اللاهوت المسيحي في الحركة السندينية في نيكاراغوا.
لقد كتب شارلز غورهام بشأن الدين في أوربا في كتابه هل الدين عائق للتقدم؟ كتب: يوجد الآلاف من الناس الذين اعترفوا باستنتاجات العلم الرئيسية الى درجة غير محدودة، ومع ذلك يذهبون الى الكنيسة ويرتلون ويصلون وحتى يحضروا القداس ويعتبرون بشكل واسع انهم مسيحيون صادقون، ويعتقد غورهام ان الالحاد فشل في جذب الناس اليه ويعني بهم الاوربيين، وهؤلاء الناس في رأيه يتوخون وجوب ان يكون لديهم تفسيرات من نوع ما وفق قوله، رغم ان غورهام يميل في كتابه الى عدّ الدين عائقا للتقدم ويتبنى موقفا مضادا للدين في العالم الحديث، لكنه ينتهي الى اعترافه بمحدودية المعرفة عن العالم الذي نعيش فيه، وانه لا يعرف شيئا عن العالم الذي تم الاقرار بانه مجهول، مما يتيح لأفكار الدين ان ترتاد هذا العالم المجهول بفضل ما تمتلكه من آليات وأدوات تتناغم وطبيعة النفس البشرية وتساؤلاتها ومشاعرها البديهية إزاء العالم والوجود، وهذه المسألة هي التي ترسي العلاقة بالدين بأوسع مما ترسيه علاقة الدين بالسياسة وتتسبب بعودة الدين.
لقد كان البديل الممكن بل والضروري عن الدين هو العلم وفق ما أرسته المنطقية الوضعية وما بثته المادية الحداثية، لكن العلم التزم حدوده في العقل وامتنع عن جدل الكينونة تاركا ذلك الجدل الى اختيارات الانسان وتصوراته الاكثر خصوصية في حقل الضمير ليندمج مفهوم الضمير بالتصور الديني وفق مقترح الغرب، وبمعنى أدق إضمار تصوراته في الوجود لاسيما الدينية بشكل شخصي ليمنح الدين بعدا خاصا يمهد لفصله عن الفضاء العام الاجتماعي ليمهد الى فصله عن الفضاء السياسي ثم تحقيق الغرض في فصله عن الدولة في العلمانية وتلك هي الممارسة السياسية العلمانية في تاريخ الدولة الحديثة.
لكن الدين لا يستطيع ان يظل محتجزا في مجال الضمير الخاص للأفراد لاسيما وأن الدين يرسي نظاما اجتماعيا من العلاقات تؤسس له فكرة الاخوة الدينية العابرة للحدود الفاصلة الجغرافية والعرقية، وتتكون في تأسيساته الأولى جماعة المؤمنين، وهو ما يمهد الى دخول الدين في السياسة بالبحث عن مصالح هذه الجماعة التي تتمدد في مواقعها الجغرافية نتيجة تمدد الدين بين أمم العالم، مما يثير ملابسات التدخل في الشؤون الداخلية للمجتمعات والدول، وهنا يمكن استغلال الدين بشكل فج في التواءات السياسة وصراعات المصالح، وفي ظل تلك الأجواء ينشأ العنف والتطرف وباستعارة مسميات دينية، لكن انعكاسات الدين الوجودية في افق فضاءات كونية ارحب من حدوده السياسية كلغة في فهم الوجود الانساني واضفاء المعنى وتعكس الفهم الديني العام للوجود والكون وتلك وظيفة الاديان في تجاوزها الآني والعابر والوقتي والدنيوي لاسيما المصالحي الذي يشكل محور الهمّ السياسي للعلمنة.
لقد كانت في التاريخ البشري فكرة الأخوة بل وحتى مسمى الأخوة هي دينية في تأسيسها المبكر للعلاقة بين البشر بعد ان كانت علاقة سادة وعبيد، لقد تحول مفهوم العبودية في ظل حركة الاديان الى مفهوم المساواة الوجودية بين البشر باعتبارهم ينتظمون في علاقة واحدة ومتساوية امام الله، وكان مفهوم المساواة تستغرقه أو تنظمه دينيا حالة العبودية لله، فهم خلق الله اولا بعد ان كانت اديان الوثنية تروج الى خلق السادة من رؤوس الالهة وخلق العبيد من اطرافها السفلى، أو الملوك السادة هم من نسل الالهة وانهم أنصاف آلهة، وثانيا هم عباد الله الذي هو موضوع المساواة الوجودية بين البشر، وثالثا هم عبيد الله لغرض كسر غرور البشر الذين يريدون استعلاء على البشر واستعبادا للآخرين.
وفي تلك الابعاد الثلاثة ينتظم مفهوم العلاقة بالله الذي كرسته الاديان الالهية في موضوعة الايمان الذي تتشكل في نطاقه العلاقة في بنية الأخوة الدينية باعتبارهم جماعة المؤمنين وانما المؤمنون إخوة في منطق الدين الإلهي، وفي بنية الاخوة الدينية هذه تنكسر ارادة العلمنة في عزل الدين في مجال ضمير خاص،لان مبدأ الأخوة يُنشأ مجالا هاما وعاما في شبكة العلاقات الانسانية يغذي فيها الجوانب الروحية ذي الضرورة الفائقة في الوجود الانساني مما يحيل الدين الى تجاوز مجاله الخاص المفترض علمانيا الى امكانيات المجال العام، لكن من العبث بالدين حصر ذلك المجال العام بالسياسي.
واذا كانت العلمنة سعت ونجحت في ترسيخ علاقة المواطنة لكنها اكتفت بحدودها السياسية والقانونية ولم تقحم نشاطها في المجال الروحي والعاطفي والاسري في تنظيم العلاقات الخاصة بها في نطاق المعنى في حياة الانسان، وهي أهم مدارك أو مجال العلاقات في الوجود الانساني والتي تتشكل فيها امكانيات المجال العام للأديان، مما يفسر ذلك الفقر الذي تخلّفه او خلّفته الحداثة/العلمنة/الحضارة المادية في تلك المجالات الثلاث "الروحي والعاطفي والاسري"، ويفسر أيضا والى حد كبير هذه العودة المبكرة للدين في الغرب بعد ان كانت توقعات الغرب تشير الى انتهاء عصر الدين واستحالة عودته الى ما كان عليه قبل الحداثة بعد ان قسر الغرب انتماء الدين الى ما قبل الحداثة.
بينما لا يمكن الحديث عن عودة الدين في عالمنا لان الدين ظل هو الماكث في وجودنا الاجتماعي والثقافي والفاعل والمنظم في شبكة علاقاتنا الانسانية، لكنه تعرض الى صدمة الحداثة لاسيما مع المنطق المشوّه الذي تم تسويقها من خلاله من جانب خصومه المحليين، وتعرض الى محاولات الاستغلال السياسي من جانب ادعيائه المحليين أيضا.