مناهج الوصول لحقيقة النص
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2017-06-04 07:00
12ـــ لا يوجد منهج علمي موصِل لحقيقة النص
المعنى الثاني عشر للنسبية: لا يوجد أي منهج علمي، أو غير علمي، يستطيع أن يضمن الوصول إلى حقيقة النص.
مناهج تضمن الوصول لحقيقة النص
وهناك وجوه عديدة تشكل مجموعة من الاعتراضات على هذا الرأي:
1: هنالك (مناهج علمية) تضمن الوصول إلى (حقيقة النص) وقد ذكرها المفسرون وعلماء الأصول والمنطق والبلاغة، عبر بحوث كثيرة عقدوها، تحت عناوين مختلفة نشير إلى بعضها:
مناهج أدبية:
(المحكم والمتشابه) و(النص والظاهر) و(المجمل والمبين) و(المشترك اللفظي والمعنوي) و(الحقيقة والمجاز) و(الدلالة التصورية والتصديقية) و(الإرادة الجدية والاستعمالية) و(دلالة الاقتضاء).
المنهج الوصفي السردي:
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك انتهاج العلماء (المنهج الوصفي التقريري) في مقابل (المنهج المعياري التقليدي) فإنه يعد دليلاً واضحاً على وجود (مناهج علمية) تضمن الوصول الدائم أو الأكثري، للواقع؛ إذ أن المنهج الوصفي التقريري:
1- يعتمد على مقاييس واحدة في التحليل.
2- يتحرى الوضوح والتبسيط في شرح العناصر ووصفها.
3- يقوم بدراسة المستويات كافة.
4- يخضع الافتراضات للتجربة ولا يعتمد على الافتراضات المسبقة.
كما أن من المناهج (المنهج الرياضي) أو (الاستدلالي)، ومن ذلك منهج حساب الاحتمالات، ومنه التركيب بعد التحليل والتجزئة، وعلى المناهج السابقة ابتنت الجامعات وتطور العلم الحديث، وإنكارها يساوي التأخر وحتى الطرد من الجامعة!
ودلالة (الإيماء والإشارة وغيرها)، وكذلك (الظاهر بأقسامه والباطن) و(التفسير والتأويل) وضوابطهما إلى غير ذلك.(1)
منهج الاستقراء والتجربة
كما أن هنالك مناهج علمية ـ عملية، تضمن الوصول إلى حقيقة النص، كما تضمن الوصول إلى حقيقة الواقع، وذلك كمنهج (الاستقراء)، و(التجربة)، ومنهج (السبر والتقسيم) و(الدوران والترديد) وغيرها ومن أوضح الشواهد على ذلك (تعلم اللغات) فإن من يريد أن يتعلم معنى لفظٍ معيّن في لغة أجنبية، فإن من الطرق أن يتكرر استعمال تلك الكلمة في ذلك المعنى، على مسامعه، وهي الطريقة التي يتعلم بها الطفل اللغة، كما أنها الطريقة المفضلة في بعض المدارس النموذجية لتعليم اللغات الأجنبية، حيث يتعاملون مع المتعلم كتعامل الأبوين مع الطفل؛ بمداومة استعمال اللفظة في معناها، ويتركون لملاحظة المتعلم واستقرائه ـ الشعوري أو اللاشعوري ـ لموارد استعمالهم، أن تكون هي المرشد له للمعرفة بوضع الألفاظ ومعانيها، كما يتركون لملاحظته وتجربته ـ بمشاهدته القرائن الحافة ـ أن تكشف له المجاز من الاستعمالات وكشف العلاقة الخفية، وهذا هو (التعلّم التعيُّني).
بل حتى (التعلم التعييني) والذي يعني التصريح للمتعلم بأن هذه الكلمة موضوعة لهذا المعنى، أو وضع مجاميع المعاني مقابل مجاميع الألفاظ، في عمود الألفاظ في كتب اللغة، فإنه أيضاً (منهج علمي) يكفل الوصول إلى حقيقة المعاني عبر ألفاظها الموضوعة لها في تلك اللغات.
ولولا الإذعان بذلك لانهار أساس تعلم اللغات، ولما أمكن لأحد أن يتعلم أية لغة أجنبية، ولا للطفل أن يتعلم لغته الأم؛ إذ لا منهج علمي يضمن أن هذه الكلمة تدل على هذا المعنى، لا على غيره، وأن هذا المعنى يرمز إليه بهذا اللفظ، والنص ـ أي الكلمات والجمل ـ حي متحرك يتعدد بتعدد قارئيه وسامعيه، والقراءات مفتوحة، وفهم كل أحد للكلمة الأجنبية ومعناها، بأية طريقة كان هو عين تلك اللغة! كما ادعوا من أن فهم كل أحد للشريعة هو عين تلك الشريعة!
ولنشر إشارة سريعة إلى بعض الأمثلة، فإن: (اسْأَلِ الْقَرْيَةَ)(2) لا شك أنه يراد به: (اسأل أهل القرية) على نحو المجاز في الحذف، ويمكن المجاز في الإسناد أيضاً، وذلك من القواعد البلاغية الواضحة، ولا يشكك عاقل في قول عاقل مثل ذلك أنه أراد غير ذلك!
كما أن من البديهي أن الحكيم العالم الملتفت، له أن يستنبط من: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‚(3) و: (حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(4) أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر في مراد العالم الحكيم المحيط الملتفت، كما استنبط الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه ذلك.
كما أن من الواضح لدى العقلاء أن منهج بتر النصوص وإخراجها عن سياقها ومحيطها، أمر مرفوض، ولا يوصل لمرادات المتكلم أو الكاتب، ولا يمكن إلزامه بها أو إدانته، ولذا لا يصح إلزام من قال: (رأيت أسداً يرمي) بأنه ادعى أنه رأى أسداً جارحاً، بحذف قرينة يرمي! أو من قال: إنني لا أستريح طوال النهار إلا ساعة، بأنه ادعى عدم الاستراحة أبداً بحذف ما استثناه.
للعقلاء نظام مرجعي
وأن بناء العقلاء ـ من كل الفرق والنحل والملل ـ مستقر على سلسلة من القواعد والأصول والمناهج والأسس، التي تلزم الطرفين بإتباعها، ليتم نظام التفاهم والتحاور بل نظام الحياة كله، وإلا للزم الهرج والمرج ولما استقر حجر على حجر، والخارج عنها (شاذ)، وعلى ذلك فإن له أن يعترف بأنه (لا يفهم حقيقة النص)! وأنه لا يعترف بمنهج من المناهج، لكن ليس له أن يجعل خروجه عن بناء العقلاء من كل الملل والنحل، ضابطة عامة، ومقياساً شاملاً مرجعياً للفهم وعدم الفهم، وأنه (لا يوجد منهج علمي أو غير علمي..)
نعم له أن يقول: إنني أرفض هذه المناهج العقلائية، كما له أن يرفض قوانين البلاد، وقوانين المرور، لا أن يدعي أنها غير موجودة!
ومن الواضح أن رفض بناء العقلاء هذا، يستلزم (الفوضى المعرفية) وفي (الحياة العلمية) و(التدفق العبثي اللا منضبط للمعاني) بل ويستلزم (الهرج والمرج) و(اختلال النظام)، كما يستلزم التخلف عن ركب الحياة.
ولنشر إلى قاعدة من القواعد الآنفة الذكر، كمثال على ذلك(5)، فإن من القواعد (حجية الظواهر) ومنها أن (الأمر الصادر من سلطة أعلى، ظاهر في الوجوب) وكذا (النهي ظاهر في الحرمة) وأن (جميع وكل) نص في العموم، وأن الجمع المحلى بأل ظاهر في العموم، فلا يحق لأحد مخالفة أوامر السلطة الشرعية(6) في (المرور) و(قوانين السوق) وغيرها، بحجة أنه لا يوجد منهج علمي أو غير علمي يستطيع أن يضمن الوصول إلى حقيقة النص!
ولنذكر ههنا أيضاً بعض الأمثلة السريعة على بعض الأصول السابقة، فإن العقلاء في كل الملل والنحل يفهمون الفرق الكبير بين (الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع) أو (الإسلام مصدر رئيسي) ولذا نجد حرباً ضروساً عند كتابة دساتير البلاد بين من يرتأي أن الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع أو أنه مصدر من مصادر التشريع ولئن لم يفهم هرمينوطيقي الفرق بين (مصدر) و(المصدر) فإنه لابد أن يفهم الفرق بين (المصدر الوحيد) وبين (مصدر من المصادر)!
أنواع العلوم
إن العقلاء سواء كانوا متدينين أم لا، فرقوا بين أنواع العلوم، فأدركوا:
1: ضرورة أن تكون نصوص بعض العلوم، كلها، (نصوصاً) بالمعنى الحرفي للكلمة، وقد (اكتشفوا) عدداً من تلك (النصوص المطلقة)، أولاً، ثم إنهم التزموا في كل جديد بأن (يضعوا) نصوصاً محددة صريحة، دالة على مطلوبهم ومرادهم أو على ما توصلوا إليه واكتشفوه، وذلك من البيّن لمن له أدنى معرفة بعلوم الحساب والهندسة.
كما أنه هو الأصل في علوم كالفيزياء والكيمياء؛ لأن أي خطأ في أية معادلة، فإنه قد ينتهي إلى كارثة، ثم إنه لو كانت نصوص الكيمياء والفيزياء، نسبية، للزم أن يفهمها العلماء بطرق متغايرة بل متناقضة، كما يلزم أن تكون نتائج تجاربهم ـ وإن تقيدت حرفياً بمعادلاتها الرياضية ـ مختلفة تمام الاختلاف، بل أن لا يستطيع أحد من العلماء إجراء نفس التجربة التي أجراها عالم آخر، أبداً؛ لأن ما يفهمه من النصوص الدالة على الأدوات والمواد المستخدمة في تجربته، خاضع لأفقه المعرفي والنفسي، والمغاير بالضرورة للأفق المعرفي النفسي للعالم الآخر، فلا يمكنه أبداً (توحيد) الأدوات والمواد، واستخدام عين ما استخدمه الآخر، مما ينتج استحالة وصول عالم إلى نفس نتائج التي وصل إليها عالم آخر، ومما ينتج عدم إمكان وضع قواعد عامة في أي علم من العلوم، بل يستلزم لغوية كتابة أية تجربة أو معادلة، وكل هذه النتائج، مما لا يقول بها من له أدنى مِسكة من العقل أو المعرفة.
والحاصل: إن العقلاء كافة قد أذعنوا بأنه لا مدخلية لقناعات الكاتب أو القارئ والمفسر، ولا لنفسيته وعاداته وتقاليده، في دائرة هذه الحقائق والنصوص، بل هي (نصوص) مطلقة، إيجابية، ذات دلالات محددة، لا يشك فيها إلا مكابر.
2: كما أدركوا ابتناء علوم أخرى على (الظواهر) واعتبروها حجة في التفهيم والتفهم، كما كانت (النصوص) حجة في العلوم الأولى، وذلك في كافة (العلوم الإنسانية)، كما أن العقلاء أدركوا واكتشفوا أن التشكيك في ذلك، وإن كان نتيجة شبهة أو إجتهاد معين، أحياناً، إلا أنه في غالب الأحيان يكشف عن المكابرة عن قبول الحق والتعلم، والعناد رغم وضوح الحق، وحب المخالفة والظهور؛ تبعاً لقاعدة: (خالف تُعرَف)، كما أن التشكيك في ذلك، كالتشكيك في الكثير من البديهيات الأخرى، قد يعود لعامل نفسي، ويكشف عن اضطراب في الشخصية، أو مرض، كمرض (ضعف الأعصاب) و(الوسوسة) فإنها قد تكون في توهمِ وجودِ أرواحٍ أو جنٍ في المنزل، وقد تكون في الطهارة والنجاسة، وقد تكون في (الالسنيات) وفهم اللغة والكلمات ودعوى نسبية المعرفة!! وأن (النص) ليس بنص! والظاهر ليس بظاهر! وأنه المبين كالمجمل والمجمل كالمبين ولا فرق بين المبهم والمعلوم، والحقيقة والمجاز والتكنية والتصريح.