شبكة النبأ تحاور الباحثة رسل رياض عبيد: لغة الشعر تتحول من رموز إلى مواقف

أوس ستار الغانمي

2025-07-30 12:30

في عالم الشعر، حيث اللغة تتجاوز حدود القول لتصبح شكلاً من أشكال الرؤية، تنبثق دراسات نقدية تفتح أفقًا لفهم التحولات الفنية والفكرية التي تطرأ على النصوص الشعرية الحديثة. وفي هذا الإطار، تبرز رسالة الباحثة رسل رياض عبيد التي قدّمتها لنيل درجة الماجستير في كلية التربية للعلوم الإنسانية، والتي عنونتها بـ (لغة الشعر عند أحمد عبد الحسين)، بوصفها محاولة نقدية عميقة للنفاذ إلى البنية اللغوية لشاعر يُعدّ من أبرز الأصوات الشعرية في جيل الثمانينيات العراقي.

في هذا الحوار، نقترب من دوافع هذا الاختيار، ونكتشف كيف عالجت الباحثةُ ظواهر لغوية شائكة مثل الانزياح، والرمز، والدلالة، وكيف رصدت ملامح التحوّل في اللغة الشعرية التي تماهت مع قضايا الذات والواقع والتاريخ، دون الوقوع في فخ الخطابية أو المباشرة. كما نناقش التحديات التي واجهتها في هذا المسار البحثي، وأثر هذه التجربة في وعيها الشعري والإنساني.

ما الدافع الذي جعلكِ تختارين الشاعر أحمد عبد الحسين موضوعًا لبحثكِ؟

اختياري للشاعر أحمد عبد الحسين نابع من قناعتي بأن شعره يُمثّل لحظة تحوّل في الشعر العراقي الحديث. فهو ينتمي إلى جيل الثمانينيات، ذلك الجيل الذي كتب تحت ضغط الحروب والرقابة السياسية، فابتكر أساليب لغوية خاصة للهروب من المباشرة، وابتكار رموز تعبّر عن وجعه الجمعي والذاتي. هذا المزيج بين الرمز والسياسة شدّني كثيرًا ووجدت فيه مشروعاً بحثياً غنياً.

كيف ترين موقع أحمد عبد الحسين في خارطة الشعر العراقي الحديث؟

يُمثل أحمد عبد الحسين أحد أبرز أصوات جيل الثمانينيات، وهو جيل يُعد مفصلياً في تاريخ الشعر العراقي. لقد تجاوز الصياغات التقليدية للشعر السياسي، وابتكر لغة رمزية تحتمل النقد والاحتجاج، دون أن تخلّ بالشعرية. من هنا، فمكانته ليست فقط لتميّزه الفني، بل لأنه أحد الذين وحّدوا بين التجريب الشعري والموقف الأخلاقي والسياسي.

 ما التحديات التي واجهتكِ أثناء تحليل لغته الشعرية؟

أبرز التحديات كانت كثافة الرمزية والانزياحات اللغوية التي تجعل من كل نص فضاءً تأويليًا مفتوحًا. كما أن الشاعر كثيرًا ما يمزج بين الفلسفي واليومي، مما يتطلب قدرة على تفكيك مستويات الخطاب المتعددة في قصيدة واحدة.

ذكرتِ أن "الشعر لا يقوم إلا بلغته"، كيف تميزين هذه اللغة الشعرية عن اللغة العادية أو الخطابية؟

اللغة الشعرية تُبنى على الانزياح، والتكثيف، والاشتباك مع الدلالة، بينما اللغة العادية وظيفية أو مباشرة. الشعر لا يقول ما يُقال، بل ما لا يُقال، وهذه المفارقة هي ما تمنح اللغة الشعرية خصوصيتها وتوهجها.

 كيف تعاملتِ في دراستكِ مع مفاهيم مثل: الانزياح، الرمز، والدلالة؟ وهل كانت هناك مرجعية نظرية معينة اعتمدتِ عليها؟

اعتمدت على مرجعيات نقدية ولسانية حديثة، منها مفاهيم الشكلانيين الروس، ونظريات رومان جاكوبسون، وتصورات عبد القاهر الجرجاني عن النظم، فضلاً عن طروحات النقاد المعاصرين الذين اشتغلوا على اللغة الشعرية في ضوء علاقتها بالبنية والدلالة. هذه المفاهيم كانت مفاتيح لفهم بنية اللغة الشعرية لدى الشاعر.

 هل ترين أن لغة أحمد عبد الحسين تميل أكثر إلى التعقيد الرمزي أم الوضوح التعبيري؟ ولماذا؟

تميل لغته إلى التعقيد الرمزي، لكنه تعقيد مقصود لا يعادي القارئ، بل يحفّزه على المشاركة في إنتاج المعنى. الشاعر يتعمّد الغموض الإبداعي الذي يفتح النص على تأويلات متعددة، دون أن يسقط في فوضى اللغة أو العبث بها.

في رأيكِ، كيف تسهم اللغة الشعرية في تشكيل الصورة الشعرية والإيقاع في شعر أحمد عبد الحسين؟

اللغة الشعرية عنده ليست وسيلة لإنتاج الصور، بل هي الصورة ذاتها. أما الإيقاع، فيتولد من تكرار المفردات، وتوزيع الجمل، والتنقل بين الحقول الدلالية. إنّه إيقاع داخلي يتجاوز الإيقاع العروضي التقليدي.

 هل هناك توازن في نصوصه بين الشكل والمضمون، أم يطغى أحدهما على الآخر؟

أحمد عبد الحسين يحقق توازناً بين الشكل والمضمون؛ إذ يُطوِّع الشكل لخدمة المعنى، ويجعل المعنى يتجسد من خلال بنية لغوية متقنة. الشكل عنده ليس زينة، بل آلية إنتاج للمعنى.

 كيف يوظف الشاعر الأسطورة والتاريخ ضمن لغته؟ وهل ترين هذا التوظيف وعيًا ثقافيًا أم فنيًا في الأساس؟

يوظف الأسطورة والتاريخ كمرآتين للواقع الراهن، لا كتقليد ثقافي. التوظيف يحمل وعياً مزدوجاً: ثقافياً وفنياً، حيث تتداخل الرموز في نصوصه لتؤسس طبقات دلالية عميقة ترتبط بالوعي الجمعي والتجربة الذاتية.

 أشرتِ إلى حضور دلالات سياسية في شعره، كيف استطاع أن يُضمّنها دون الوقوع في المباشرة؟

من خلال اللغة الرمزية والإيحائية، استطاع أن يُمرر مواقفه السياسية ضمن بنية شعرية عالية التوتر، بعيدة عن المباشرة والخطابة. السياسي عنده يذوب في الجمالي، فيصبح الشعر موقفاً لا شعاراً.

 ما الأبعاد الوجودية أو الفكرية التي برزت من خلال اللغة الشعرية لديه؟

برزت عبر تساؤلاته العميقة عن الموت، والغياب، والزمن، والمعنى. لغته محمّلة بقلق وجودي واضح، لكنه يقدّمه بلغة شعرية لا فلسفية، مما يمنح التجربة بعداً شعرياً وإنسانياً في آن.

 هل تعتقدين أن الشاعر يحاول من خلال لغته إعادة تشكيل الواقع أم الهروب منه؟

أراه يعيد تشكيل الواقع شعريًا لا يهرب منه. إنه يقدّمه بمرآة لغوية مختلفة، ترصد هشاشته وتعيد ترتيبه من جديد بما يسمح بإنتاج معنى آخر، ربما أصدق أو أكثر تكثيفًا من الواقع ذاته.

هل يمكن القول إن أحمد عبد الحسين قد شكّل "عالمًا شعريًا خاصًا" بلغته؟ ما سماته الأساسية؟

نعم، عالمه الشعري مشبع بالرمز والتمويه، لكنه منضبط من الناحية الجمالية. سمات لغته تقوم على التشفير الذكي، كثافة الصورة، التناص مع التاريخ والأسطورة، وخلق شبكة دلالية تستبطن الهم السياسي دون أن تُفصح عنه بوضوح. إنه شاعر يصوغ العالم لا كما هو، بل كما يجب أن يُفهم.

 هل اختلفت لغة الشاعر بين بداياته ومراحله اللاحقة؟

نعم، هناك تطور ملحوظ في تجربته الشعرية. في بداياته، كانت لغته تميل إلى الإيجاز والتكثيف السياسي المغلّف بالرمز، متأثرة بواقع الثمانينيات القاسي. أما في مراحله اللاحقة، فقد أصبحت اللغة أكثر انفتاحًا على الوجودي والفكري، وأكثر اشتغالًا على الطبقات الدلالية والتناص. لكنه حافظ على أسلوبه الخاص الذي يجمع بين الانزياح والهم السياسي.

 كيف تتعاملين كباحثة مع تعدد التأويلات الناتجة عن الرمزية والكثافة اللغوية في شعره؟

تعاملتُ مع هذا التعدد بوصفه أحد أهم خصائص الشعر الحديث، لا كعائق بحثي. اعتمدت على أدوات تحليلية مرنة، انطلقت من النص نفسه، وراعت السياقات الثقافية والتاريخية. كنت حريصة على ألا أفرض تأويلاً واحدًا، بل أحترم التعدد التأويلي، وأضع احتمالات قرائية متعددة مدعومة بالمنهج.

 بعد هذه التجربة، هل تفكرين في متابعة دراسة الشعر من زوايا أخرى؟

بالتأكيد، هذه التجربة فتحت لي آفاقاً جديدة في قراءة الشعر، وأشعر أن ثمة تجارب شعرية أخرى تستحق التوقف عندها. لا أستطيع الآن تحديد المسار القادم، لكنني أؤمن بأن كل قراءة عميقة تُفضي إلى قراءة أخرى، وكل تجربة تفتح باباً جديداً للفهم والتأمل.

 ما النص الذي ترينه يمثل ذروة اشتغال أحمد عبد الحسين على اللغة؟

أعتقد أن كل قصائده تحمل طابعاً لغوياً وفكرياً متماسكاً، ولكل واحدة منها خصوصيتها ودلالتها. لكن القصيدة التي استوقفتني كثيرًا كباحثة، ووجدت فيها تكثيفًا عميقًا لرموزه ومفاهيمه، هي "بيتي على الهاوية". فـ"البيت" هنا لا يُفهم كمأوى فقط، بل يتحول إلى رمز للهوية، والهاوية ليست مجرد خطر، بل تمثيل لمصير معقّد يهدد هذه الهوية. هذه القصيدة تُمثل قمة الاشتغال على اللغة كمساحة توتر بين المعنى والهاجس الوجودي والسياسي.

ما الذي أضافته هذه التجربة لكِ كباحثة وإنسانة؟

أضافت لي عمقًا في فهم الشعر، ليس كنوع أدبي فحسب، بل كأداة وعي ومقاومة. جعلتني أُدرك أن اللغة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل وسيلة للنجاة أحياناً. وعلى المستوى الإنساني، قرّبتني من التجارب الصعبة التي حملها جيل الثمانينيات، وعلّمتني كيف يمكن أن يُعبّر الشعر عن أقسى ما نعيشه دون أن يفقد روحه.

في هذا الحوار، أضاءت الباحثة رسل رياض عبيد جوانب دقيقة من تجربة شعرية معقدة وغنية، كشفت من خلالها عن وعي نقدي متقدم في التعامل مع اللغة بوصفها جوهر الشعر ومفتاح فهمه. لقد تأملت في لغة أحمد عبد الحسين بوصفها حقلًا دلاليًا متحركًا، وفضاءً تأويليًا مفتوحًا تتقاطع فيه الذات بالتاريخ، والأسطورة بالواقع، والرمز بالموقف الأخلاقي.

لم يكن اشتغال الباحثة على اللغة مجرد تحليل لأساليب فنية، بل كان تقصّيًا لعلاقة الشاعر بالعالم من خلال الكلمة. وقد بدا واضحًا أن هذه التجربة لم تُضِف فقط إلى الحقل الأكاديمي، بل أثرت في صاحبتها على مستوى الفكر والوجدان، مؤكدة بذلك أن البحث في الشعر هو أيضًا بحث في الإنسان ومعناه.

نغادر هذا الحوار وفي أذهاننا يقين بأن الشعر، حين يُقرأ بوعي، يُنير أكثر مما يُبهر، وأن اللغة حين تُمسك بتفاصيلها، تفتح نوافذ لفهم الذات والآخر والواقع من منظور أكثر عمقًا وصدقًا.

ذات صلة

ثورة الطف: خرائط عمل لمكافحة الفسادلماذا يجب حصر السلاح بيد الحكومة؟النهضة الحسينية في مواجهة الاغتراب الثقافيانتخابات بلا تغيير: وهم الديمقراطية في الأنظمة الأوتوقراطيةانتقام الجغرافيا