لعنة التوقعات الهابطة
بروجيكت سنديكيت
2020-09-29 07:02
بقلم: نانسي بيردسال
واشنطن، العاصمة ــ قبل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، كان كثيرون في العالم النامي يشعرون بالرضا والارتياح لمستقبلهم. في عموم الأمر، كانت البلدان النامية تعافت بسرعة من أزمة الركود الأعظم في الفترة 2009-2010، وكان كثيرون ــ وخاصة في أفريقيا وأميركا اللاتينية ــ يتمتعون بالفوائد المترتبة على الطلب المتنامي بلا انقطاع من قِـبَـل الصين على النفط، والمعادن، والسلع الزراعية. وكانت التوقعات في ارتفاع.
ولكن لم تكن هذه هي الحال في الولايات المتحدة، حيث كانت فوائد النمو الاقتصادي منذ ثمانينيات القرن العشرين موجهة إلى من هم أثرياء بالفعل، مع تدهور أحوال المنتمين إلى الطبقة المتوسطة والفقراء على نحو متزايد. يعزو العديد من المحللين صعود اليمين الشعبوي وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في عام 2016، إلى هذه الاتجاهات. ففي حين تقلصت الطبقة المتوسطة، انزلقت مجموعة متنامية من الطبقة العاملة من ذوي البشرة البيضاء إلى اليأس. ويشعر كثيرون بالغضب والإحباط إزاء خسارة الوظائف بسبب العولمة، وإهمال الحكومة في مواجهة وباء انتشار تعاطي المواد الأفيونية، والبرامج الاجتماعية التي تعاني من نقص التمويل، بل وحتى الرأسمالية ذاتها التي يحركها الربح. (الاستثناء المثير للاهتمام لقاعدة توعك الطبقة العاملة كان أصحاب البشرة السوداء واللاتينيين، الذين أصبحوا أكثر تفاؤلا بشأن مستقبلهم مع نجاحهم في تضييق الفجوة مع ذوي البشرة البيضاء من أبناء الطبقة العاملة).
جاءت نهاية التوقعات الصاعدة في أميركا ببطء، فعلى مدار عقود عديدة من الزمن بعد طفرة ما بعد الحرب، حيث ساعدت المؤسسات السياسية القائمة منذ فترة طويلة والمعايير الراسخة في جعل النظام الديمقراطي الليبرالي مرنا وقادرا على الصمود نسبيا. ولكن في القرن الحالي، بدأ التماسك الاجتماعي (على الأقل في ما يتصل بذوي البشرة البيضاء) والشعور المشترك بالتقدم الأخلاقي ينحل، مما جعل الجسد السياسي عُـرضة على نحو متزايد لجاذبية الشعبوية غير الليبرالية (وما هو أسوأ).
تحمل هذه التجربة بعض الدروس للبلدان النامية. فالتوقعات الـمُـحبَـطة ضارة ليس فقط لصحة الأفراد ورفاهتهم، بل وأيضا لقدرة المجتمع على بناء وترسيخ الأعراف والمؤسسات الديمقراطية.
كان النمو الاقتصادي في العالم النامي في عموم الأمر أقوى وأكثر ثباتا منه في الولايات المتحدة لأكثر من جيل كامل. فقد انطلقت الصين والهند في تسعينيات القرن العشرين، وحذت حذوهما معظم المناطق النامية الأخرى بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بما في ذلك ــ وبشكل أكثر درامية ــ منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. كان هذا النمو شاملا بالقدر الكافي لانتشال عشرات الملايين من الناس من الفقر المدقع (1.90 دولار يوميا)، لكنه لم يكن بالضرورة كافيا لضمان مكان لهم في الطبقة المتوسطة. بدلا من ذلك، نشأت طبقة جديدة ضخمة من "المناضلين" الذين تتدبر أسرهم أمورها بما يتراوح بين 4 إلى 10 دولارات في اليوم للفرد.
ورغم أن المناضلين أفضل حالا من الفقراء، فإنهم يفتقرون إلى الرواتب المنتظمة والتأمين الاجتماعي، وهم بالتالي عُـرضة للصدمات الأسرية مثل الأزمات الصحية أو الخسارة المفاجئة للعمل أو الوظيفة. أغلب هؤلاء يعملون لحسابهم الخاص أو ينتمون إلى فئة العمال غير الرسميين في قطاعات الطعام، والنقل (سائقي سيارات الركوب بالنفر)، والتجزئة داخل المراكز الحضرية المتوسعة. تضم هذه الفئة أكثر من ثلاثة مليارات شخص في البلدان النامية، وهم طموحون في السعي إلى تحقيق مستقبل أفضل ويخشون الخطر المستمر المتمثل في الانزلاق إلى براثن الفقر مرة أخرى.
بمرور الوقت، ساعد النمو الاقتصادي في رفع مستوى بعض المناضلين (في الأرجح أولئك من الحاصلين على بعض التعليم الثانوي) إلى طبقة متوسطة ضخمة وسريعة النمو، بدخول يومية تتراوح بين 10 إلى 50 دولارا للفرد. مع ذلك، سنجد أن أسر الطبقة العاملة المناضلة هي السائدة في العالم النامي، حيث تشكل نحو 60% من الناس، في حين تشكل أسر الطبقة المتوسطة 20% أخرى، وتمثل الأسر التي تعيش فقرا مدقعا نحو 12%، والأسر الثرية 8%. وبين هؤلاء، تواجه الأسر المناضلة والأسر المنتمية إلى الطبقة المتوسطة الجديدة القدر الأعظم من المخاطر المتمثلة في صدمات الاقتصاد الكلي الناجمة عن الأوبئة التي تعاني منها البلدان النامية.
تشير تقديرات آندي سومنر وزملائه المشاركين له في الأبحاث في King’s College London إلى أن الانكماش الناجم عن جائحة كوفيد-19 في البلدان النامية بنسبة 10% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020 من شأنه أن يدفع نحو 180 مليون شخص إلى ما دون عتبة الفقر المدقع (1.90 دولار يوميا). وبينما بنى البنك الدولي تقديراته الخاصة على انكماش أصغر في الناتج المحلي الإجمالي لكل بلد على حدة بمتوسط 5%، فإنه لا يزال يحذر من أن 70 مليون إلى 100 مليون شخص قد ينزلقون إلى براثن الفقر المدقع.
من ناحية أخرى، قد يجد أفقر المناضلين من فترة ما قبل الجائحة أنفسهم فجأة بين من يعانون "الفقر المدقع"، بل إن عددا أكبر من المناضلين الباقين ــ نحو 400 مليون وفقا لتقديرات البنك الدولي ــ معرضون لانخفاض حاد في الدخل أثناء الركود الحالي. أضف إلى هذا نحو 50 مليون شخص آخرين ينتمون إلى أسر الطبقة المتوسطة من المرجح أن يتحولوا إلى مناضلين، كما تضم دائرة الخطر ما قد يصل إلى 450 مليون شخص ــ أكثر من إجمالي سكان الولايات المتحدة.
تُـرى ماذا يعني أن يجد الملايين من البشر أنفسهم في حال أسوأ مما كانوا يتوقعون، دون أي خطأ أو جُـرم ارتكبوه؟ تُـظـهِـر تجربة أميركا اللاتينية أنه عندما تعاني شريحة عالية الصوت في المطالبة بحقوقها من السكان من انقلاب حاد في التوقعات، تكون النتيجة التوتر الاجتماعي والاستقطاب السياسي على طريقة الولايات المتحدة. في الفترة 2014-2015، بدأ النمو في مختلف أنحاء المنطقة يضعف ويفقد الزخم بشكل سيئ، حيث تدنى إلى أقل من 1% في المتوسط سنويا، وهو ما يدل ضمنا على نمو سلبي لنصيب الفرد. ونتيجة لهذا، أصبحت الظروف التي كانت محتملة عندما كانت الفطيرة الاقتصادية تنمو غير محتملة على نحو مفاجئ.
في السنوات الخمس التي تلت ذلك، اندلعت احتجاجات ضخمة في البرازيل، وبوليفيا، وشيلي، وكولومبيا، والإكوادور، وكانت أغلبها بسبب الفساد الرسمي والامتيازات الداخلية التي تتمتع بها النخب السياسية والشركاتية. ولم ينجح المحتجون في تحقيق أي تغيير تدريجي إلا في شيلي الغنية نسبيا.
في ظل كوفيد-19، يخضع العالم النامي لضغوط سياسية ومالية شديدة. وبدون عملاتها الخاصة القابلة للتداول، لا تستطيع هذه البلدان الاقتراض من مواطني المستقبل (كما هو وارد في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) لتلبية احتياجاتها الفورية.
نظرا للمخاطر المتمثلة في تآكل التماسك الاجتماعي، وعدم الاستقرار السياسي، وعودة الاستبداد والشعبوية إلى الظهور، يتعين على صندوق النقد الدولي والبنوك المتعددة الأطراف أن تقدم برامج إقراض أكبر كثيرا للبلدان المتوسطة الدخل. ويجب أن تكون هذه البرامج بسيطة ومباشرة، ومصممة لتمويل تحويلات نقدية فورية لضمان إنقاذ أطفال الأسر الفقيرة والمناضلة من الجوع والاضطرار إلى ترك المدرسة بشكل دائم. مثل هذه الاستثمارات ضرورية لجني عوائد رأس المال البشري في المستقبل والذي تعتمد عليه التنمية في نهاية المطاف.
تشكل أزمة مرض فيروس كورونا المستجد لحظة حيث لا ينبغي للديمقراطيين الليبراليين في الولايات المتحدة أن يكتفوا بمقاومة الاستبداد في الداخل، بل يتعين عليهم أيضا أن يكثفوا الضغوط من أجل توفير الدعم الإضافي للبلدان النامية. عندما يكتشف الناس الذين كانوا يعتقدون أن آفاقهم في ارتفاع أن توقعاتهم أصبحت في غير محلها، فقد تتحول السياسة إلى فوضى شديدة بسرعة بالغة ــ وسوف تتكبد الحرية والحريات المدنية أضرارا جانبية مؤكدة.