إصلاح الإنفاق من أجل نمو مستدام واحتوائي في البلدان العربية
صندوق النقد الدولي
2018-02-14 04:20
كريستين لاغارد
هذا هو منتدى المالية العامة الثالث الذي أحضره، وأود الترحيب بكم جميعا وخاصة من ينضمون إلينا للمرة الأولى. وأعدكم بأنكم ستخرجون من الحوار بمحصلة ثرية.
لقد اشتركنا مؤخرا مع صندوق النقد العربي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وحكومة المغرب في تنظيم مؤتمر كبير في مراكش كان يركز على تشجيع النمو والوظائف والاحتوائية في العالم العربي – أي كيفية خَلق اقتصاد يضم الجميع ويعمل لصالح الجميع ويتيح الفرص للجميع. وكان كثير منكم حاضرا لفعالياته واشتركنا معا في مداولات حول التحديات التي تواجه المنطقة والفرص المتاحة لها.
إنكم بصدد جدول أعمال إصلاحي مشحون، لكن سياسة المالية العامة ركيزة أساسية. وتساهم سياسة الإنفاق على وجه التحديد بدور حيوي في دعم وتعزيز النمو المستدام والاحتوائي الذي ننشده جميعاً.
وعلى هذه الخلفية، اسمحوا لي أن أستعرض معكم السياق الاقتصادي الإقليمي في عجالة قبل أن أركز على بعض تحديات الإنفاق الأساسية أمام المنطقة، وأحاول اقتراح مسارات للإصلاح في الفترة القادمة.
السياق الاقتصادي
أولاً، السياق.
تعلمون جميعاً أن التعافي الاقتصادي اكتسب قوة أكبر على مستوى العالم وأن النمو عاد من جديد بمعدل 3.9% في عامي 2018 و2019 ليشمل 75% من الاقتصاد العالمي. لكن هذه الموجة لا تحقق الدفعة الكافية لهذه المنطقة.
ولا شك أن هناك اختلافات بين البلدان.
فبالنسبة للبلدان المصدرة للنفط، تعافت أسعار النفط إلى النقطة المتوسطة بين مستوياتها الدنيا والمستويات العليا التي سجلتها منذ بضع سنوات، وهو ما يظل يفرض ضغطاً كبيراً على أرصدة المالية العامة ويقتضي اعتماد نموذج اقتصادي مختلف.
وتختلف القصة قليلاً بالنسبة للبلدان المستوردة للنفط. فمن المتوقع أن تحقق نمواً أعلى لكنه لا يقترب بأي حال من المستوى اللازم لتوفير وظائف كافية للشباب الداخلين إلى سوق العمل. وقد استمر ارتفاع الدين العام في هذه البلدان، حتى تجاوز 50% من إجمالي الناتج المحلي في كثير منها. وبالإضافة إلى ذلك، تعاني بعض البلدان من الصراعات والإرهاب وتدفقات اللاجئين الكبيرة وتفاقُم المخاطر الأمنية.
إذاً، فالتحديات كبيرة في كل مكان. والاستقرار هو المعرض للخطر في نهاية المطاف. فبطالة الشباب هي الأعلى على مستوى العالم – بمتوسط 25% وأكثر من 30% في تسعة بلدان. وبالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يدخل سوق العمل على مدار الخمسة أعوام القادمة أكثر من 27 مليون شاب مفعم بالأمل يتوق إلى المشاركة. لكن تطلعات شباب المنطقة لم تتحقق بعد وإحباطهم المفهوم يزداد حدة بسبب تصورات عدم الإنصاف. فنتائج المسوح تشير إلى أن أكثر من 60% من المجيبين يرون أن الصلات مع أصحاب النفوذ أهم بكثير من توافُر المؤهلات المطلوبة للحصول على وظيفة. ومن السهل أن يؤدي هذا إلى حالة من الاستياء، وإلى تصاعد التوترات الاجتماعية وانهيار ثقة المجتمع.
أهم تحديات المالية العامة
وعلى هذه الخلفية، انتقل إلى الحديث عن بُعد المالية العامة. والخلاصة هنا هي أنه ما لم تكن سياسة المالية العامة على مسار مستدام، فسيصبح تصاعُد المديونية عبئاً على كاهل الشباب المثقلين بالأعباء أصلاً ولن يتاح حيز كافٍ لتمويل الإنفاق اللازم للنمو الاحتوائي.
وقد كانت الإيرادات محور التركيز في منتدى العام الماضي. وهناك بلدان عديدة قامت بإصلاحات مهمة على جانب الإيرادات، بما في ذلك تطبيق ضريبة القيمة المضافة مؤخراً في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وهي خطوة مهمة نحو تنويع الإيرادات وبناء الطاقة الضريبية. ولا شك أن هناك مجالاً لعمل المزيد – إذ أن الإيرادات المحلية منخفضة للغاية بمتوسط يبلغ 10% فقط من إجمالي الناتج المحلي. ويجب أن يتم ذلك دون إغفال اعتبارات العدالة والإنصاف – وكلاهما شرط لضمان مقبولية الضرائب.
أما هذا العام فنركز على الجانب الآخر من العملة، وهو الإنفاق. فسياسة الإيرادات وسياسة الإنفاق متكاملتان وينبغي تقييمهما كحزمة واحدة لتحقيق أهداف المالية العامة والأهداف الاقتصادية والاجتماعية.
أولويات الإنفاق
وإذا نظرنا إلى الإنفاق، سنجد أنه يغلب عليه الارتفاع الكبير في المنطقة – وهو ما يَصْدُق على دول مجلس التعاون الخليجي بوجه خاص، حيث يبلغ الإنفاق مستوى أعلى بكثير من المتوسط السائد في الاقتصادات الصاعدة، ويقترب من 55% من إجمالي الناتج المحلي في بعض البلدان.
ورغم أن حجم الحكومة يعتمد على تفضيلات المجتمع، فإن مستوى الإنفاق المرتفع من السهل أن يتجاوز القدرة على تدبير الإيرادات.
وهناك بلدان كثيرة تعمل بالفعل على اتخاذ خطوات لاحتواء الإنفاق. ولكنها تعتمد في الغالب على إجراء تخفيضات شاملة أو استنسابية. والأفضل هو اتباع منهج أكثر استراتيجية يوفر الحماية للفقراء ويحافظ على الطاقة الإنتاجية في الاقتصاد.
ولننظر الآن في مكونات الإنفاق: الاستثمارات العامة من أولويات النمو المستدام والاحتوائي بالفعل، لكن هناك مجالات أخرى تشكل أولوية أيضاً، كالصحة والتعليم والحماية الاجتماعية – وهي مجالات غالباً ما يكون الإنفاق عليها منخفضاً في البلدان العربية. ومن ناحية أخرى، نلاحظ ارتفاع الإنفاق في مجالات أخرى كدعم الطاقة وأجور القطاع العام.
والواقع أنه لا يوجد ما يبرر الاستمرار في دعم الطاقة. فهو يأتي بتكلفة باهظة – بمتوسط 4.5% من إجمالي الناتج المحلي في البلدان المصدرة للنفط و3% من إجمالي الناتج المحلي في البلدان المستوردة للنفط، رغم انخفاض أسعار النفط. كذلك يفتقر هذا الدعم إلى الشفافية – إذ يكون ضمنياً في الغالب ولا يتم إدراجه في الموازنة. كما يتسم بدرجة عالية من عدم التكافؤ – حيث يعطي أفضلية للأثرياء الأكثر استهلاكاً للطاقة. ولعل الأسوأ من ذلك كله هو أنه يدعم الإضرار بالبيئة في وقت نحتاج فيه إلى السير في الاتجاه المعاكس – أي أن نحمي الكرة الأرضية وحياة ساكنيها وصحتهم ومستقبل أجيالهم القادمة.
وماذا عن فاتورة أجور القطاع العام؟
أتَفَهَّم أن الوظائف الحكومية يمكن أن تكون "صمام أمان اجتماعي" كبير. لكن حين يكون القطاع العام هو الجهة التي تؤمِّن وظيفة من كل خمس وظائف، فإنه يتحمل تكاليف هائلة – تؤثر على استدامة المالية العامة، والقدرة على إقامة قطاع خاص ديناميكي، وتحقيق الحوكمة الرشيدة.
ولا تقتصر هذه التحديات على الشرق الأوسط. فقد كان إصلاح فاتورة أجور الطاع العام الكبيرة أو المتنامية بسرعة ضرورة واجهت كثير من بلدان العالم. والتصميم الدقيق للإصلاحات أتاح لبلدان مثل آيرلندا تخفيض هذه الفاتورة بنسبة 4 نقاط مئوية من إجمالي الناتج المحلي. ونحن نتطلع إلى حديث روبرت وات، أحد كبار مهندسي الإصلاح في آيرلندا، عن الدروس المستخلصة من تجربتها.
وفي نهاية المطاف، تتعذر خدمة الصالح العام من خلال نظام الرعاية الذي يضر بالإنتاجية وينشر التمييز عن طريق الفساد الذي ينشأ عن تقديم المحسوبية على الجدارة. ويؤدي هذا النظام إلى إهدار المواهب الجيدة والحد من حوافز الاستثمار في المهارات والمعرفة – وهي القاطرات الدافعة للنمو على المدى الطويل. ويمكن أن يتسبب هذا النظام في تفاقم الشعور بالسخط وعدم الثقة والاستياء – وهو حال يحمل بذور الهزيمة الذاتية في نهاية المطاف.
وأخيراً فإن نمط الإنفاق الحالي لا يزال يفتقر إلى الكفاءة في مختلف القطاعات، بما في ذلك الصحة والتعليم والاستثمار العام. فلم تتمكن تكاليف الأجور المرتفعة من تحسين جودة الخدمات العامة. كما أن مردود الاستثمار العام لا يرقى لمستوى التوقعات مثلما يشير العديد من "تقييمات إدارة الاستثمار العام".
كل ذلك يقود إلى نتائج اجتماعية دون المتوسط. فالعمر المتوقع في البلدان العربية أقل بنحو عشر سنوات من المتوسط السائد بين أعضاء "منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي" (OECD). ولا يزال الالتحاق بالتعليم دون مستوى التغطية الشاملة، وعدد كبير من الفتيات ما زال يُفرض عليهن البقاء في المنزل، كما أن أداء الطلاب في الاختبارات القياسية من بين أدنى مستويات الأداء في العالم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن معدل الفقر مرتفع نسبياً وعدم المساواة لا يزال مصدراً للقلق.
استشراف المستقبل
وكما قلت في البداية إنها تحديات جسيمة. لكن تذليلها غير مستحيل.
فقد تحقق تقدم جيد في إلغاء دعم الطاقة بالتدريج. وقد قامت كل البلدان المصدرة للنفط برفع الأسعار المحلية، مع التزام كثير منها بإنجاز المزيد.
وبدورها حققت البلدان المستوردة للنفط تقدماً في هذا المجال. فقد تعهدت مصر، على سبيل المثال، بتحقيق تقدم أكبر في إصلاح الطاقة ضمن برنامجها الذي يدعمه الصندوق.
والعمل جارٍ في تونس لإصلاح دعم الطاقة، مما حقق للحكومة وفراً في المالية العامة يعادل 1% من إجمالي الناتج المحلي – ويمكن الآن توزيعه لتمويل النفقات ذات الأولوية على غرار نفقات الحماية الاجتماعية.
وخلاصة القول إن المنطقة حققت بداية واعدة فيما يتعلق بدعم الطاقة، لكن أمامها شوطاً طويلاً يتعين أن تقطعه – وخاصة عن طريق تحديد أسعار الوقود بعيداً عن الاعتبارات السياسية واستحداث آليات للتسعير التلقائي.
أما مجال الإصلاح الثاني فيتعلق بتخفيف الضغط عن فاتورة أجور القطاع العام. وسيشمل هذا المجال تحسين اتساق مستويات أجور القطاع العام مع المستويات السائدة في القطاع الخاص والابتعاد عن النظام الضمني القائم على رعاية الدولة. وإذا تم ذلك بالصورة الصحيحة – ومع الحماية الاجتماعية الصحيحة – يمكن أن يساعد على إطلاق طاقة الابتكار والإبداع الكبيرة لدى القطاع الخاص، والاستفادة بما يتمتع به شبابكم من إمكانات هائلة.
ولكن إصلاحات فاتورة الأجور ينبغي إجراؤها بحرص وبمنظور استراتيجي. فينبغي تنفيذها ضمن جدول أعمال أوسع نطاقاً لسياسة الإنفاق، وربطها بأهداف اجتماعية يمكن تحقيقها، بما في ذلك أهداف التنمية المستدامة. كذلك ينبغي أن تكون منصفة إلى أقصى درجة ممكنة، وأن تتضمن تحليلات مبكرة للأثر الاجتماعي. وينبغي أيضاً إتمام هذه الإصلاحات في السياق الأوسع لجهود تنويع الاقتصاد، والحد من الفساد، وتعزيز الحماية الاجتماعية، وجعل بيئة الأعمال أكثر تيسيراً لخلق الوظائف الكريمة والمجزية.
والمجال متاح أيضاً لتحسين كفاءة الإنفاق الذي يمكن أن يحقق مكاسب كبيرة. ففي مجال الصحة، مثلاً، يؤدي عدم كفاءة الإنفاق على مستوى العالم إلى خصم ما يزيد على العامين من عدد سنوات الحياة الصحية المتوقعة – علماً بأن تخفيض العامين بنسبة 10% يحقق نفس الفائدة التي تحققها زيادة الإنفاق بنسبة 0.7% من إجمالي الناتج المحلي. وأمام هذه المنطقة فرصة كبيرة لتحسين الأداء في هذا المجال، وخاصة في بلدان مثل المملكة العربية السعودية ومصر. وفي مجال التعليم، هناك ثغرات كبيرة في الكفاءة أيضاً لدى بلدان مثل عمان وموريتانيا ومصر.
وينطبق نفس الأمر على الاستثمار العام. ففي هذه المنطقة، تقدر الفجوة في كفاءة الاستثمارات العامة – وهي مقياس للقيمة الضائعة بسبب عدم الكفاءة في إجراءات الاستثمار – بأكثر من 20% في بلدان مثل الأردن وموريشيوس. ونحن نرى أن تعزيز ممارسات إدارة الاستثمار العام يمكن أن يؤدي إلى سد فجوة الكفاءة بنسبة تصل إلى الثلثين. كذلك يشير تحليلنا إلى إمكانية توفير أكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي سنوياً في دول مجلس التعاون الخليجي إذا انخفضت أوجه عدم الكفاءة في الاستثمار العام لتصل إلى مستويات البلدان الأفضل أداءً في هذا المجال.
والخلاصة هي أن رفع كفاءة الإنفاق أيضاً يحرر موارد يمكن توجيهها للصحة والتعليم والحماية الاجتماعية.
إنه جهد ثماره الإيجابية أكيدة – طريق يقود إلى تخفيض الفقر وعدم المساواة دون زيادة في الإنفاق الكلي.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الصندوق يواصل البحث في كيفية دعم سياسة المالية العامة للنمو الاحتوائي والحد من عدم المساواة. وفي آخر عدد من تقرير الراصد المالي، على سبيل المثال، نظرنا في أساليب عملية للحد من عدم المساواة – مع التطرق إلى الضرائب التصاعدية، والاستثمار في الصحة والتعليم، كما بحثنا المزايا والمساوئ التي ينطوي عليها تطبيق مفهوم الدخل الأساسي المعمم.
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود بعض الزوايا الواعدة فيما يتعلق بتحسين كفاءة الإنفاق. منها الرقمنة التي يمكن أن تساعد البلدان على تقديم الخدمات العامة بفعالية أكبر وتكلفة أقل. ومنها الأنظمة المتقدمة لإثبات الهوية والاستيثاق من البيانات، مثل التكنولوجيا البيومترية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان تحويل المساعدات الاجتماعية إلى حسابات مصرفية مربوطة بالتكنولوجيا البيومترية عاملاً حاسماً في الحد من تسرب الدعم في الهند، بينما حققت جنوب إفريقيا خفضاً كبيراً في ممارسات الاحتيال والفساد عن طريق التحول إلى استخدام بطاقات الخصم المؤمَّنة بالتكنولوجيا البيومترية لتوجيه مبالغ التحويلات الاجتماعية للشرائح المستحقة.
وهناك مجال مهم آخر يتمثل في ضرورة تعزيز الحوكمة وتحسين الإدارة المالية العامة. وبالطبع، لا يسعني أن أختتم كلمتي دون التوصية بوضع الميزانية على أساس يراعي الجنسين.
وأنا مقتنعة عموماً بأن الإصلاحات الصحيحة في السياق الصحيح ومع توفير الحماية الصحيحة ستتيح لسياسة المالية العامة دعم الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المهمة التي تتطلعون إلى تحقيقها.
خاتمة
وختاماً أود التأكيد على شعوري بالتفاؤل. فالمنطقة العربية قد تكون في مواجهة تحديات كبيرة، لكن إمكانات شعوبها وتصميم قادتها الاقتصاديين كبيران أيضاً.
وكما يقول المثل العربي "من جد وجد ومن زرع حصد".
تذكروا أن الأمم العربية قادت العالم يوماً ما في طلب المعرفة والابتكار العلمي – بل في بلورة الفكرة التي تقول بأن العلامات المميزة للحضارة هي الاحتواء والعدالة واللياقة. وأنا أثق تماماً في أن هذه الأمور ليست تركة ورثتموها فحسب، بل هي مصيركم الأكيد – حتى يتسنى ترجمة طموحات شبابكم المشروعة إلى واقع مشروع في اقتصاد يعمل لصالح الجميع.
وبينما تسلكون طريق الإصلاح، وهو طريق قد لا يكون في كل الأوقات ممهداً وخالياً من العقبات على النحو الذي نتمناه جميعاً، أتعهد لكم بأن الصندوق سيظل صديقاً وشريكاً دائماً لكم. فسنكون معكم صحبة الطريق وشركاء الرحلة.