التجربة اليابانية: في التنمية

ندى علي

2017-11-25 05:20

في نهاية القرن التاسع عشر كانت اليابان دولة غير التابعة في التنمية والفقيرة بالموارد لكنها استطاعت تصنيع نفسها بسرعة كبيرة جدا، بينما لم تكن دول أمريكا اللاتينية، الغنية بالموارد، وروسيا، قادرة على تحقيق ذلك؟ وكانت روسيا قد هزمت بسهولة من قبل اليابان في حرب عام 1904، بعد أربعين عاما من الجهود التي بذلتها من أجل تحقيق التنمية عندما يستعيد المركز عافيته من الأزمة ويعيد تأسيس الصالات التجارية والاستثمارية التي تعيد نظام التوابع إلى النظام، أو عندما يتوسع المركز بحيث يضم المناطق المنعزلة سابقا إلى النظام العالمي، فأنا ذلك سيعمل على خنق التصنيع والتطور السابق لهذه المناطق أو سيعمل على وضعها في مسارات ليست واعده وغير قادرة على إدامة نفسها بنفسها.

وبغض النظر عن ماحققته من تطور آنذاك، فأن القطاع الصناعي في البرازيل، والأكثر من ذلك القطاع الصناعي في الأرجنتين، قد أصبحا أكثر فأكثر تخلفا من الناحية الهيكلية، وأقل قدرة على تحقيق التصنيع المستمر وإدامة التطور الاقتصادي.

ولم يكن الكساد، الذي حدث في أواسط عقد الستينيات من القرن العشرين بالبرازيل إلا مقدمة للانهيار الذي نجم من إعادة ارتباطها بالنظام العالمي.

لكن النموذج التابع قضى نهائيا على هذه القوة، وذلك بسبب:

1- اللجوء إلى قروض خارجية غير ضرورية، مقيدة بسلع الرأسمالية والتكنولوجيا الأجنبية (التي تحدد نقل الاستثمارات) وتتحول إلى عوامل محلية محبطة.

2- قبول الشركات عبر الوطنية التي تجذبها السوق الواعدة.

لقد تبنت اليابان سياسة اقتصادية مشابهة لتلك التي تبنتها ألمانيا وذلك من حيث:

1- قيام الدولة باستثمارات مباشرة في المشاريع البنية التحتية وفي مشاريع الإنتاج الصناعي.

2- سياسة المشتريات الحكومية من الصناعات المحلية، وتقديم المساعدات إلى الشركات الخاصة في البلاد.

3- اعتماد الحمائية المعتدلة في الاستيرادات .

4- إعاقة الإستثمارات الأجنبية.

5- قيام المصارف الوطنية بتمويل الإنتاج، بفوائد قليلة، إضافة إلى مساهمتها بأسهم رأسمال الشركات.

6- تقليد المؤسسات والأنظمة ومعاهد البحوث والدراسات على وفق النموذج الألماني.

7- التأكيد على الإرتقاء بمستوى القوة العسكرية، إذا أنه يعد من التوصيات الأساسية الملزمة للقطاع الصناعي، وخلق فرص عمل مباشرة في القوات المسلحة.

هذه هي الأسس التي إستندت عليها التنمية اليابانية منذ عام 1868|1869 والتي تسمى بـ (ثورة أو إصلاحات ميجي (Meiji غير إن هناك بعض المؤشرات الدالة على التنمية كانت قد ظهرت قبل هذه الثورة، في عهد توكوغلوا ، ولكن بتحفظ أكبر إعتبارا من عام 1850.

إن تعريفات الإستيراد، التي يعتبرها الكثيرون بمثابة الأساس لمناقشة نظام الحمائية، لم تعد تشكل الصيغة الأكثر أهمية بالنسبة لهذا النظام، لقد تضرر التصنيع ولكنه لم يتوقف عن النمو، وذلك رغم غياب التعريفات الحمائية المفروضة من قبل القوى الغربية بوساطة معاهدات وقعت قسرا تحت تهديد قصف الأسطول الأمريكي (عام 1854).

ولم تتمكن اليابان من استعادة إستقلالها في إصدار التعريفات إلا بعد عام 1890، وقد إكتمل هذا الإستقلال في عام 1911. إن الحماية التجارية عن طريق التعريفة لا تكون ضرورية إلا إذا كان إنخفاض قيمة سعر التحويل، يعمل على تعويضها في البلدان التي تكون صادراتها قليلة على الرغم من الأضرار التي تلحقها بعملية التبادل التجاري. وإن القيود غير التعريفية تضع الصناعة المحلية بعيدا عن المنافسين الأجانب المتقدمين، بغض النظر عن السعر التحويل إن هذا جميعه موجود في اليابان، إضافة إلى القيود الثقافية والعادات المختلفة والنفور من النزعة الإستهلاكية .

إن الأساس في الموضوع هو منع الإستثمارات الأجنبية المباشرة من الهيمنة على السوق المحلية، هذه الهيمنة التي أصبحت شديدة الوطأة على العديد من البلدان أبان القرن العشرين، وفي هذا الخصوص لا أحد يستطيع ان يتفوق على اليابان وذلك بفضل.

1- الوطنية النقية، التي خلقت صعوبات للشركات الأجنبية التي كانت تغامر بالعمل في اليابان.

2- القيود الثقافية والأيديولوجية.

3- غياب الموارد المعدنية ومنتجات المناطق المدارية التي تفضلها القوى الصناعية والتجارية والمالية.

4- تبني النهج المستقبل والسياسة الإقتصادية الوطنية أمام النزاعات القائمة بين القوى المهيمنة.

الدولة والصناعة الوطنية

قامت اليابان بإنجاز التطورات الصناعية التي كانت فيها الدولة هي المحرك الأول، وفيما يأتي أهم العوامل التي أدت إلى هذه التطورات:

1- تراكم رأس المال:

لقد قاوم صناعيو القطاع الخاص، في بداية عهد ميجي، الإستثمار في الصناعة الحديثة وذلك لجهلهم بالتكنولوجيا الصناعية، إذ كانوا يتصورونها تحتوي على مخاطر كثيرة، وتتطلب رؤوس أموال كبيرة لا تتوافر لديهم، ولذلك كانوا يدخرون أموالهم أو يوظفونها في الأنشطة ذات الصلة بالتجارة الخارجية، وعليه فإن هؤلاء لم يستثمروا أموالهم إلا في الصناعة الخفية، ولغرض جعل الإستثمارات الوطنية التي يقوم بها القطاع الخاص إستثمارات مربحة ومضمونة، قامت الدولة بإنتهاج الأساليب الثلاثة الآتية :

أ‌- إدارة مشاريع صناعية رائدة والقيام بالإستثمارات المباشرة فيها، بحيث أثبتت إن هذه المشاريع كانت مربحة ويمكن القيام بها.

ب‌- تقديم الإعانات إلى قطاع الصناعة الثقيلة والصناعات الأخرى، وإلى قطاع بناء السكك الحديد والملاحة، ضامنة بذلك أرباحا مساوية لتلك التي كانت تحصل عليها في الزراعة وفي التجارة.

ج-التشجيع على تكوين نظام المصارف الوطنية، بما فيها مصاريف الإقراض الصناعي التي كانت تمنح قروضا طويلة الأجل وبفوائد منخفضة.

2- إعانات الدولة وإستثمارها المباشر:

لقد كان المشاريع الصناعية الرائدة هي السائدة في السنوات العشر الأولى التي أعقبت ثورة ميجي، وكانت الإعانات قد مارست دورا كبيرا في المدة الواقعة بين عامي 1880 و 1890، وقد وجب على الدولة أن تشرع بشكل مباشر في إنشاء خطوط السكك الحديد الرئيسة، التي يقدم أفراد القطاع الخاص على الإستثمار فيها، على الرغم من ضمان ربح لا يقل في حده الأدنى عن 7% من رأس المال المستثمر، وبعد عام 1874، أدى النجاح الذي حققته مشاريع السكك الحديد الحكومية إلى زيادة قدرة الدولة على تقديم إعانات كافية للتمويل في هذه المجال، وفي عام 1892، أنشات اليابان 3000 كم من الخطوط السكك الحديد، بحيث كانت 900كم منها تعود إلى الدولة .

ولقد انتقلت الإستثمارات الحكومية المباشرة إلى قطاعات أخرى، كالمناجم الكبيرة ذات المكائن الحديثة مثل الحديد، والرصاص، الذهب، الفضة، والنحاس وكان الجزء الأكبر ينجز من قبل شركة حكومية واحدة للتعدين .

وكانت الحكومة تمتلك ثلاث اكبر شركات الغزل في البلاد، وبدأت الحكومة بتقديم الإعانات إلى الشركات الخاصة في هاذا القطاع، فقد إشترت مكائن من إنكلترا، وباعتها بشروط مناسبة للصناعيين من القطاع الخاص، ومنحت أخرين قروضا طويلة الأجل .

تركيز التنمية

يثبت تاريخ اليابان أن الرابطة الروحية وما يتبعها من تلاحم وتماسك إجتماعي على النطاق الوطني، تعد من الأمور الأساسية في انتهاج طريق الإستقلال الذاتي، فبدون هذا الإستقلال تصبح الدولة طرفية حتما، وعرضة للإستغلال الذي تسعى إلى تحقيقه المراكز الإقتصادية العالمية أو الإقتصاد العالمي، إن الخطوة الأولى للوصول إلى مرتبة المركز تتمثل في التخلي عن مرتبة الطرف، وإن الأساس في تحقيق ذلك يتمثل في الإعداد الثقافي، كما تعمل على تجسيده اليابان، ردت على تحدي الإنفتاح غير التلقائي بـ:

1- تحجيمه إلى أدنى حد ممكن .

2- إستيعاب التقنيات، مع إعطاء عدد قليل جدا من الإمتيازات للمراكز، وذلك لأغراض الرقي الصناعي والعسكري .

3- استغلال النزاعات بين الدول المراكز .

وكانت الصين، على الرغم من الجهود التي بذلتها من أجل أن تصبح دولة صناعية قد أخفقت لسببين هما:

1- تدخل القوى الغربية في شؤونها الداخلية .

2- تفكيك الدولة .

ولولا الدولة :

1- لما تمكنت اليابان من منع رؤوس الأموال الأجنبية من السيطرة على الصناعة .

2- ولما استطاعت تنظيم تنمية القوى الإنتاجية الوطنية .

طريق التنمية

يمكن أن نخرج بدروس التالية من الحقائق التي تم عرضها فيما سبق كما يأتي :

1- هناك نموذج واحد فقط للتنمية .

2- ويتميز هذا النموذج بأسبقية العوامل الروحية والأخلاقية .

3- فبدون هذه العوامل، لا يمكن تحقيق إنسجام وترابط النسيج الإجتماعي، الذي تنجم عنه عملية التنمية.

4- إن هذا النموذج يفترض وجود نخبة مبدعة، متعلمة، ومعلمة على رأس الدولة .

5- وهذه النخبة هي التي تقود الدولة على وفق ستراتيجيتها الخاصة, بحيث لا تتبع القوى الخارجية ولا تسمح لها بالسيطرة على أسواق البلاد .

6- إن الدولة تخدم المجتمع وتقود تطوره وتعمل على دعم مصالح كافة الطبقات الإجتماعية .

7- يكون الإقتصاد موجها وفي الوقت نفسه يسمح للمصالح بتوجيه وقيادة الشركات .

8- إن هذا التوازن غير موجود في البلدان الطرفية التي تكون مقبلة على تفكك هياكلها بالكامل .

معوقات التنمية

1- التركز: سيطرة الشركات عبر الوطنية على الدول

إن الاتجاه التنافسي يولد نقيضه، أي تركز الاقتصاد، لذلك ينبغي إنقاذ اقتصاد السوق من نفسه إذا ما أريد الدفاع عن بعض منه، لقد كانت التنمية الصناعية في إنكلترا أكثر بطئا من مثيلتها في ألمانيا، وكان التركز الكبير واحدا من أسباب ذلك، وبضمنة التركز في الميدان الزراعي، بينما كانت التنمية الصناعية في الولايات المتحدة الأمريكية هي الأسرع ومصحوبة :

1- بأجور عالية ناشئة عن العلاقات(الأرض|الإنسان) .

2- بتوزيع واسع للأراضي .

3- بالهجرة .

وعجلت اليابان من نموها بعد الحرب العالمية الثانية عندما قامت بتنفيذ الإصلاح الزراعي، وتمكنت كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا التي لم تتمكن إلا بعد الحرب العالمية الثانية، من السيطرة قليلا على التركز، بواسطة قوانين مكافحة الاحتكار .

2-العولمة

أن سكان البلدان شبه الأطراف هم من المهمشين، ذلك لأن الهدف الرئيس من اهتمام أصحاب التركز المتمركزين في البلدان المراكز،هو وصولهم،عن طريق حق الامتياز،إلى المواد الأولية في البلدان الأطراف بسعر بخس،إن البلدان الأطراف تعاني من تدمير شامل ويتم دفع سكانها إلى ظروف إجتماعية،سياسية واقتصادية أسوأ من الظروف التي كانت سائدة في القرن التاسع عشركما أن تفكيك الدولة وإضعافها يعنيان وجود بلدان كاملة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، بينما يكون المتنفذون فيها تابعين للبلدان المراكز.

المظهر الخادع للتنمية التابعة

أن التبعية تتناقض مع التنمية، غير أن العديد من الكتاب يستخدمون مفاهيم متناقضة فيقولون : التنمية التابعة، وهم يحاولون تخليص التبعية من ارتباطها بالامبريالية، من خلال فبركتهم لإحدى الايديولوجيات الرامية لقبول السيطرة وإخراج الأموال من البلدان (شبه) الطرفية من قبل المراكز العالمية، واعتبار ذلك من الأمور الايجابية، ويعملون أيضا على إخفاء حقيقة التبعية التي تعمل على تمزيق البلدان الطرفية، لأن هذه التبعية عندما تبدأ في بلد ما، فان نطاقها يزداد اتساعا في كافة المجالات.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا