الحكومة العراقية وحق الجميع بالتنمية البشرية

نظرة في تقرير التنمية البشرية لعام 2016

د. حسين أحمد السرحان

2017-07-02 06:39

ليس خافيا ما تمر به الدولة العراقية حكومةً وشعباً من اوضاع صعبة اقل ما توصف به انها مربكة وسلبية جدا لم تشهدها الدولة العراقية منذ تأسيسها. ونتج عن تلك الاوضاع الكثير من التحديات. هذه الاوضاع المربكة والسلبية انفجرت بعد تراكم الاخطاء والازمات التي اعتمد في مواجهتها اسلوب الترحيل والهروب منها الى الامام.

ومصاديق ذلك التفجر هو ما حل بالعراق من ازمات امنية تمثلت بسيطرة التنظيمات الارهابية على مناطق واسعة، والخلل الهيكلي المتراكم في السياسات الاقتصادية التي نجم عنها ازمة ادارة مالية ترافقت مع تزايد الانفاق العسكري، فضلا عن تردي خدمات التعليم والصحة ومضاعفاتهما من تعاظم طبقة الفئات المهمشة والمغيبة. وهذه المصاديق هي تحديات كبيرة امام الحكومة العراقية الحالية والمقبلة.

اليوم وقد قاربت لحظات تحقيق الانتصار العسكري على داعش الارهابي، يصبح لزاما التنبيه الى احد اهم التحديات التي ستبرز الى السطح وهو تحدي الارتقاء بمؤشرات التنمية البشرية لدى الفئات المهمشة لتهيئة بيئة مناسبة طاردة للتطرف والعنف. ولايخفى ان هذه الفئة كبيرة في العراق ومنتشرة على نطاق واسع ولاتكاد محافظة من محافظات البلاد تخلو منها وهي فئات مغيبة وغاب الاهتمام بها.

وضع التقرير العراق في المرتبة 121 في مؤشر التنمية البشرية Human Development Index (HDI) وهو في مرتبة متدنية بالمقارنة مع محيطه الاقليمي على اقل تقدير.

وهنا بالإمكان الاستفادة من الاهتمام الدولي -من حكومات ومنظمات دولية– بموضوع مؤشرات التنمية البشرية ولاسيما لدى الفئات المهمشة والتي اطلق عليها تقرير التنمية البشرية لعام 2016 عبارة "الافراد الذي تركوا خارج مؤشرات التنمية" فالتقرير يطرح عدد من الافكار يمكن الافادة منها في وضع السياسات العامة المقبلة في مرحلة مابعد داعش والتي اطلق عليها رئيس الوزراء حيدر العبادي مرحلة البناء واعادة الاعمار.

صدر تقرير التنمية البشرية لعام 2016 عن برنامج الامم المتحدة الانمائي بعنوان "التنمية البشرية للجميع". وركز التقرير على كيفية ضمان التنمية البشرية للجميع الان وفي المستقبل.

لا بأس ان نشير ان التنمية البشرية هي عملية توسيع خيارات الناس. والتنمية البشرية هي هدف، لذلك هي نتائج وعملية على حد سواء. تقتضي التنمية البشرية وجوب ان يكون للأفراد جميعا تأثير في الفعاليات والشؤون التي تشكل حياتهم. وفي كل ذلك، فان النمو الاقتصادي هو الوسيلة المهمة للتنمية البشرية لكن ليس غاية وتحقيقهِ لايعني النهاية. وبعبارة اخرى فإن التنمية البشرية هي تنمية الافراد عبر بناء القدرات البشرية بواسطة الافراد انفسهم عبر تفعيل المشاركة في العمليات والفعاليات التي تشكل حياتهم بهدف تحسينها. وهي كمنهج تكون اوسع من باقي المناهج مثل منهج الموارد البشرية ومنهج الحاجات الاساسية ومنهج الرعاية الاجتماعية.

يدمج مؤشر التنمية البشرية Human Development Index (HDI) لعام 2016 ثلاثة ابعاد اساسية للتنمية البشرية: الاول، العمر المتوقع عند الولادة Life expectancy at birth تعكس القدرة على ان يعيش الفرد حياة طويلة وصحية. الثاني، متوسط سنوات الدراسة والسنوات المتوقعة من التعليم وهي تعكس القدرة على اكتساب المعرفة. الثالث، الدخل القومي الإجمالي للفرد ويعكس القدرة على تحقيق مستوى لائق من المعيشة.

ولقياس التنمية البشرية على نحو أشمل، يعرض تقرير التنمية البشرية لعام 2016 أربعة مؤشرات مركبة اخرى. وهي: 1- مؤشر تخفيض انعدام المساوة وفقا لمدى انعدام المساواة. 2 – مؤشر التنمية الجنسانية الذي يقارن بين الذكور والاناث في قيم مؤشر التنمية البشرية. 3- مؤشر عدم المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة. 4- مؤشر الفقر متعدد الابعاد.

يؤكد تقرير التنمية البشرية لعام 2016 ان هناك نهج سياسات وطني ذو اربع فروع يمكن ان يضمن وصول التنمية البشرية للجميع. وقبل تبيان تلك السياسات، يطرح التقرير مجموعة من الملاحظات وهي كالآتي:

1- السياسات الشاملة مطلوبة للوصول الى "الافراد الذي تركوا خارج مؤشرات التنمية" ولكن التحدي يكمن في تطبيق تلك السياسات الشاملة على كل اقليم الدولة. على سبيل المثال، هناك بلدان ملتزمة بسياسات رعاية صحية شاملة ولكن العوائق الجغرافية ربما تعيق او تمنع المؤسسات المختصة من تأسيس مراكز رعاية صحية تغطي جميع المناطق.

2- حتى مع التركيز الجديد على السياسات الشاملة، فان بعض الجماعات من الناس لديهم حاجات خاصة لم يتم تلبيتها. اوضاعهم تتطلب اهتمام ومعايير خاصة، على سبيل المثال يحتاج الاشخاص ذوو الاعاقة الى تدابير لضمان تحركهم وتنقلهم وحصولهم على فرص عمل.

3- الارتقاء بمؤشرات التنمية البشرية لايعني استدامتها. وقد يتباطأ التقدم المحرز في تلك المؤشرات او ربما يقود هذا التقدم الى نتائج معكوسة بسبب العوائق ومواطن الضعف، مع اثارها على الافراد الذين تحققت لديهم اساسيات التنمية البشرية والاشخاص الذين لم يتحقق لهم تلك الاساسيات.

4- سيتم تمكين "الافراد الذي تركوا خارج مؤشرات التنمية" بحيث اذا فشلت السياسيات والمؤسسات ذات الصلة في الوصول اليهم، سيتمكنون من ان يرفعوا صوتهم ويطالبوا بحقوقهم ويسعون الى تصحيح الوضع. وفي عالم معولم فان السياسات الوطنية لأجل التنمية البشرية الشاملة يجب ان تستكمل وتعزز من قبل النظام العالمي والذي يثري ويعزز التنمية البشرية.

الوصول الى "الافراد الذي تركوا خارج مؤشرات التنمية":

ان اعادة توجيه السياسات الشاملة بشكل ملائم يمكن ان يضيق فجوة التنمية البشرية لدى "الافراد الذي تركوا خارج مؤشرات التنمية" ومن الامور الاساسية لهذا السعي هو تحقيق النمو الشامل، والمساواة بين الجنسين وتعزيز فرص النساء، وتعزيز القدرات والامكانات، فضلا عن تعبئة الموارد من اجل اولويات التنمية البشرية.

تحقيق النمو الشامل

من اجل وصول التنمية البشرية الى كل فرد، لابد للنمو ان يكون شامل مع اربع ركائز تدعم بعضها بعضا: صياغة استراتيجية للنمو تقودها العمالة، تعزيز الادماج المالي، الاستثمار في اولويات التنمية البشرية، والاضطلاع بشكل كبير في التدخلات المتعددة الاطراف (استراتيجية الفوز).

واستراتيجية النمو التي تقودها العمالة تركز على تدابير معينة مثل ازالة الحواجز التي تعترض التنمية الخاصة بالعمالة، وتصميم وتنفيذ إطار تنظيمي مناسب لمعالجة العمل غير الرسمي، وتقوية الروابط بين المشاريع الصغيرة والكبيرة والمتوسطة الحجم، والتركيز على القطاعات التي يعمل ويعيش عليها الفقراء خاصة في المناطق الريفية، وتعديل توزيع رأس المال والعمل في الانفاق العام لخلق الوظائف وفرص العمل. وهناك العديد من التدابير يمكن ان تعزز الادماج المالي للفقراء مثل التوسع في الخدمات المصرفية للجماعات المحرومة والمهمشة، واعتماد الاجراءات المبسطة وتسخير التكنولوجيا الحديثة لحماية الادماج المالي.

كذلك يؤكد التقرير ان الاستثمار في اولويات التنمية البشرية يمكن ان يوفر كلف اقل وخدمات وبنية تحتية ذات جودة عالية للفئات المهمشة والمحرومة. كما ان الوصول الفعال الى الخدمات من قبل الفقراء يتطلب القدرة على تحمل التكاليف والاندماج في النظام العام.

وفي اطار مؤشر التربية التعليم يطرح التقرير امكانية الاستثمار في البنى التحتية في هذا القطاع لاسيما في المناطق الريفية. وهنا يمكن ان تجلب اعادة توزيع الاصول اولئك " الافراد الذي تركوا خارج مؤشرات التنمية" الى داخل عملية التنمية البشرية والمشاركة فيها. فرأس المال البشري هو اصل من هذه الاصول، والاختلافات في التحصيل العلمي منع الفقراء من ان يصبحوا جزء من عملية الانتاجية العالية. لذا فإضفاء الطابع الديمقراطي على التعليم –لاسيما التعليم العالي– من شأنه ان ينفع الافراد في الفئات الفقيرة. كذلك تحتاج المناطق الريفية الى البنى التحتية المتمثلة بتوفير الطاقة والمواصلات مثل الطرق والكهرباء، فبناء الطرق في المناطق الريفية يقلل كلف التنقل ويعزز من تواصل المزارعين مع الاسواق ويسمح للعاملين بالتحرك بحرية اكبر، ويعزز الوصول الى المدارس وعيادات الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات.

واذا ما افترضنا توفر النزاهة والكفاءة والشفافية على صعيد الحكومات المحلية، فأن القيام بالامور محليا يؤدي الى اثار انمائية متعددة. ومن شأن توفير الصلاحيات للحكومات المحلية ان يمكنها من صياغة وتنفيذ خطط التنمية المحلية وان يتيح لتلك الخطط ان تعكس تطلعات المجتمعت المحلية. كذلك من شأن اللامركزية المالية ان تمكن الحكومات المحلية من تنويع عائداتها المالية وتكون اقل اعتمادا على منح الحكومة المركزية. واذا كان السياسات المحلية تهدف الى ضمان مؤشرات ايجابية للتنمية البشرية لاولئك " الافراد الذي تركوا خارج مؤشرات التنمية" فأنه سيحتاج ايضا الى مشاركة الناس وزيادة القدرة الادارية المحلية.

تعزيز فرص المرأة

تؤكد تقارير التنمية البشرية ان المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة هي الابعاد الاساسية للتنمية البشرية. ولأن نصف المجتمع (المرأة) لايتمتع بمؤشرات ايجابية في التنمية البشرية، فمثل هذه التنمية لايمكن ان تكون شاملة. اذ لابد ان تساهم النساء في تعظيم مؤشرات التنمية البشرية وان تكون شريكة في ذلك وفي الوقت ذاته تتمتع بآثارها الايجابية. ويؤكد التقرير ان الاستثمار في الفتيات والنساء له فوائد متعددة الابعاد. كذلك تحتاج النساء الى الدعم لمتابعة تعليمها العالي خاصة في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات اذ سيكون هناك طلب كبير في سوق العمل في المستقبل. وفي هذا السياق تبرز الحاجة الى وضع التدابير اللازمة لتشجيع دور المرأة لمباشرة الاعمال هو وضع اطار قانوني يزيل الحواجز التي تعترض دورها.

بناء القدرات وتمكين الشباب:

يؤكد التقرير ان التنمية البشرية تكون اكثر قربا للتحقق عندما يكون جميع الاطفال قادرين على امتلاك المهارات التي تتناسب مع الفرص المتاحة للشباب والانضمام الى القوى العاملة في المستقبل. فالتركيز الصحيح هو التأكيد والحرص على ضمان اكمال جميع الاطفال في كل اقليم الدولة مراحلهم الدراسية ومن ضمنها ماقبل المدرسة.

كذلك يتطلب تمكين الشباب اجراءات فعلية على المستويين السياسي والاقتصادي. على المستوى السياسي يؤكد التقرير ان هناك 30 بلد فيها هيكل برلماني غير مقيد على المستوى المحلي او على مستوى المدن او القرى او المدارس. فأراء الشباب المتنوعة الاشكال والانماط حول المشاركة – في حكومة مدعومة بإرادة، وبرلمانات شبابية وحلقات نقاشية – يمكن ان تلعب مزيد من التفاعل داخل عملية صنع القرار.

وعلى المستوى الاقتصادي ضرورة خلق فرص عمل جديدة للشباب واعداد الشباب الذين لديهم المهارات التي يحتاجون إليها للإفادة من الفرص المتاحة. فأكثر من ثلث المهارات المهمة في اقتصاد اليوم تأتي من التعليم.

ختاما هذه الافكار والاهداف نراها ضرورة لمرحلة مابعد الارهاب. وفي ذات الوقت تعزز مبدأ المواطنة عبر شعور الجميع بأنهم مشاركون في التنمية ومستفيدين منها، لاسيما وان اليوم البلاد تشهد طبقة كبيرة من "الافراد الذي تركوا خارج مؤشرات التنمية" بفعل الحروب والحصار الاقتصادي ومواجهة التنظيمات الارهابية. لذا نعتقد ان تأخذ استراتيجية البناء واعادة الاعمار بنظر الاهتمام الوصول الى جميع افراد المجتمع.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي