الشعوبية مقابل الإزدهار
بروجيكت سنديكيت
2017-03-12 04:50
بيل إيموت
لندن-تدعي مارين لوبين قائدة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في فرنسا أن المعركة الحاسمة في القرن الواحد والعشرين ستكون بين الوطنية والعولمة بينما يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يعتقد أنها ستكون بين " وسائل الإعلام المزيفة جدا " وبينه مدعوما بالناس الذي يدعي أنه يمثلهم وبالطبع كلاهما مخطىء.
إن المعركة التي سوف تحدد فعليا شكل هذا القرن ستضع التفكير طويل الأمد في مواجهة التفكير قصير الأمد. إن السياسيين والحكومات الذين لديهم تخطيط طويل الأمد سوف يهزمون أولئك الذين يفشلون –أو ببساطة يرفضون- في التطلع إلى ما هو أبعد من الدورة الإنتخابية الحالية.
تشتهر الصين بتفكيرها طويل الأمد ولكن يجب أن لا نلجأ للدول الديكتاتورية من أجل إختبار تلك النقطة فهناك بعض الديمقراطيات الغربية التي عملت ما هو ضروري من أجل إدارة القوى القوية للعولمة والتكنولوجيا وعلم السكان حيث كوفئت تلك الديمقراطيات بإقتصادات مستقرة وبأنظمة سياسية لم تتعرض بشكل عام لتحديات من الشعبويين وهناك دول أخرى إستمرت في التركيز على التفكير قصير الأمد وعانت بشكل كبير نتيجة لذلك.
ومن أجل التعبير عن ذلك الإختلاف والتميز قمت بتطوير مؤشر إحصائي مركب للجمعية الخيرية التعليمية التي أترأسها "مؤسسة ويك آب" وأطلقت على المؤشر إسم مؤشر ويك آب لسنة 2050. إن ما يميز هذا المؤشر عن مؤشرات مثل مؤشر التنافسية العالمية التابع للمنتدى الإقتصادي العالمي هو أن مؤشر ويك آب لسنة 2050 ينظر إلى ما هو أبعد من الإحصائيات التي تغطي الأداء الماضي والحالي من أجل إكتشاف أي أدلة عن العبء المستقبلي للبلدان والإنتاجية المحتملة لإصولها الرئيسية وخاصة مواطنيها.
إن مؤشر ويك آب لسنة 2050 يصنف على أساس 25 مقياس الدول الخمسة والثلاثين الأعضاء في منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية والتي في غالبيتها دول متقدمة طبقا لجاهزيتها في خمسة مجالات وهي علم السكان ومعرفة المجتمع والإبتكار التقني والعولمة والمرونة في مواجهة الصدمات غير المتوقعة ولقد جاءت النتائج مذهلة.
تحتل سويسرا صدارة المؤشر كأفضل بلد غربي من حيث الجاهزية للتعامل مع التوجهات والقوى المعروفة التي تشكل القرن الواحد والعشرين فالشعبويون في البلاد يركزون على قضية واحدة وهي الهجرة ولا يحظون بالتأييد الكافي لدخول الحكومة. إن الـتأييد المحدود الذي حصل عليه حزب الشعب السويسري اليميني المتطرف ظهر فقط بعد أن وصل عدد المهاجرين المولودين في الخارج إلى ربع الشعب السويسري وهو حوالي ضعف المستوى في الولايات المتحدة الأمريكية أو المملكة المتحدة.
لقد احتلت جارات سويسرا الأربع مراتب أقل بكثير على القائمة –ألمانيا في المرتبة 15، النمسا في المرتبة 17، فرنسا في المرتبة 20 وإيطاليا في المرتبة 32– على الرغم من علاقاتها الثقافية والتاريخية والتجارية القوية مع سويسرا. إن الأحزاب الشعبوية المعادية للهجرة وللإتحاد الأوروبي في فرنسا والنمسا قد إكتسبت ما يكفي من الدعم ليجعلها تحظى بفرصة حقيقية للفوز بالسلطة والحال كذلك ينطبق على حركة الخمس النجوم اليسارية في إيطاليا وحتى في ألمانيا يتصاعد النفوذ الشعبوي.
نظرا لسمعة سويسرا كدولة غنية وتتمتع بمستويات مرتفعة من التعليم بالإضافة إلى الإبتكار والمرونة والصلابة، فربما لم يكن من المفاجئ هذا النجاح طبقا للمؤشر ولكن مع مستويات أجور تعتبر من أكثر الأجور إرتفاعا في العام ومع حقيقة أن 19% من الناتج المحلي الإجمالي يأتي من التصنيع (مقارنة بنسبة 12% في الولايات المتحدة الأمريكية و10% في المملكة المتحدة)، كان من المفترض ولو نظريا أن تكون سويسرا ضعيفة جدا في مواجهة المنافسة الصينية والأتمتة التي تدمر الوظائف ولكن سويسرا تمكنت بشكل عام من التغلب على تلك التحديات.
لكن هذا الطرح لا ينطبق على إيطاليا فعلى الرغم من أن قطاع التصنيع فيها يمثل نسبة أقل من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بسويسرا -15% على وجه التحديد- فلقد عانت بشكل أكبر من المنافسة الصينية. إن السبب هو بسيط فإيطاليا تنتج بضائع أقل تعقيدا وإبتكارا.
إن هذا يعكس خطأ كبير ترتكبه إيطاليا وفرنسا حيث تنفقان بشكل مفرط على الرواتب التقاعدية لموظفي الحكومة وذلك من أجل كسب رضا الناخبين على المدى القصير وهذا حد بشكل كبير من قدرة الحكومتين على الإستثمار في التعليم والبحث العلمي فلا يوجد بلد يمكنه التنافس بشكل فعال ضمن إقتصاد عالمي تحركه بشكل متزايد المعرفة والتكنولوجيا لو لم تتمكن حكومته من تخصيص موارد كافية من أجل تعزيز المهارات والقدرات المناسبة لدى القوى العاملة في ذلك البلد.
إن النجاح يتطلب كذلك بيئة تنظيمية وثقافة تجارية تمكن المواطنين من الإستخدام المنتج للمعرفة التي اكتسبوها وبهذا المعنى فإن البلدان التي يوجد فيها نسبة منخفضة للمرأة في القوى العاملة (مثل إيطاليا) أو التي لم يعد أكثر العمال خبرة والذين تجاوزت أعمارهم الخامسة والستين يعملون فيها (مثل إيطاليا وفرنسا) تجد نفسها في بيئة غير مواتية بالمرة.
إن قيمة التخطيط طويل الأمد هو الأكثر وضوحا في اليابان فعلى الرغم من كونها إقتصاد متقدم يشهد أسرع زيادة في شيخوخة السكان، إلا أن اليابان تؤدي أداءا طيبا فيما يتعلق بعلم السكان في أعقاب مؤشر ويك آب 2050. إن أحد الأسباب الرئيسية هي أنها توقعت التحول السكاني الذي تشهده وعليه تمكنت من الإبقاء على أكثر من 20% من الذين تجاوزت أعمارهم الخمسة والستين عاما ضمن القوى العاملة مقارنة بنسبة 2،9% فقط في فرنسا.
إن نتائج الولايات المتحدة الأمريكية هي أسوأ من المتوقع فيما يتعلق بالإبتكار والمعرفة فالأداء السيء في المدارس الثانوية وإجمالي معدل المشاركة المنخفضة للقوى العاملة يعني أن التقنيات المتقدمة التي تطورها الولايات المتحدة الأمريكية لا يتم إستغلالها بشكل يحقق إمكانياتها الكاملة وهذا سبب رئيسي لإنتخاب ترمب رئيسا وإشارة سيئة على الإزدهار المستقبلي لأمريكا.
وحتى نجعل أمريكا عظيمة مجددا كما تعهد ترمب فإنه يتوجب على صناع السياسة أن لا يقتصر تفكيرهم على الدورة الإنتخابية الحالية والكلام نفسه ينطبق على جميع الديمقراطيات الغربية ولكن بدأ العديد من النقاد يشككون في قدرة صناع السياسة الغربيين على التخطيط على أساس هذا التفكير طويل الأمد.
لكن يمكن إثبات خطأ النقاد فالهجرة والتي تعتبر أحد القضايا الأكثر خلافية في الجدل السياسي اليوم هي قضية طويلة الأمد بالأساس وبينما كان الناخبون في الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإنفتاح فإن المملكة المتحدة تعد بإن تبقى مفتوحة بعد بريكست بإستثناء الهجرة من الإتحاد الأوروبي وفي أماكن أخرى هناك دفاع قوي لمصلحة الإنفتاح.
أما في فرنسا فمسألة الإنفتاح هي القضية التي تشكل أساس المعركة الإنتخابية القادمة فلوبان مثل ترمب والمؤيدون للخروج البريطاني من الإتحاد الأوروبي تدعي أن الإنفتاح هو كارثي ولكن المنافسين الرئيسيين للوبان –الوسطي المستقل ايمانويل ماركون والجمهوري من يمين الوسط فرانسوا فيلون– يدعون لمزيد من الإنفتاح وحرية الأسواق. إن الذي سيفوز لن يحدد مسار فرنسا فحسب بل أوروبا بأكملها وسويسرا تشعر بقلق كبير بسبب ذلك.