قدح من العدس لا يكفي
مروة حسن الجبوري
2016-12-08 07:36
منذ عام ونصف وانا لم اذق طعم لحم، اعتدت على طبق حساء العدس، وفتات الخبز المحمص على الموقد، البرد بدأ يتسلل، تجلسُ امي على الأريكة تقابلها جدتي، وابريق الشاي على المدفئة تدفء الغُرفة من بخار الماء المتصاعد نحو السقف، الفقر كان رفيقي منذ الصغر، علمتني امي ان لا احلم بالغنى والثروة، لا انها اضغاث احلام، واذكر يوما انني حلمت يوما ان املك بيت جميل وسيارة فاخرة، وبيدي الكثير من الاموال والذهب، سرعان ما أيقظتني امي بصوتها العال، لا تحلم كثيرا ، كيف علمت امي انني احلم ! عجبا يا امي حتى في نومي انت معي؟.
استيقظت وانا ما زلت اتذكر لون السيارة والبيت الفخم، لا ان امي تحاول ان تبعدني عن هذه الاحلام التي لا تطعمنا على قولها، خرجت مع بزوغ الشمس مع امي لنحتطب، بين اغصان الاشجار الكثيفة والعملاقة تسير امي وعلى جيدها كيس تجمع فيه الحطب، لنعيش منه امي تخاف الله كثيرا فرغم انشغالها في العمل، لا انها لم تقطع فرضا واحدا من الصلاة، حتى في الغابة عندما تنظر الى السماء وتعرف وقت دخول الصلاة تترك الفأس والحطب وتتجه نحو الصلاة، ترتجف من البرد، وجهها الشاحب من قلة الطعام، ترك الجوع علامة على شفتيها، وقفت بين الاغصان ترتفع يديها نحو السماء، جلست خلفها وانا اشعر بالملل والتعب ككل يوم لا نخرج للغابة ونبيع الحطب ونأكل من العدس، احسست ذات يوم ان علي ان افعل شيئا، ان ارفع عن هذا الحزن والفقر عن امي.
حين رات اصراري نحو الغنى، اردت ان اتعلم الكتابة والقراءة، اتعلم صنعة تخلصني من تقطيع الحطب وبيعها، تحمي امي من البرد والتكسير، شعرت بعطف شديد عليها، انتهت من الصلاة ولم تنتهي من الدعاء، مسكت يدها وضممتها نحو صدري ليدخل الامان الى قلبي، مسحت على صدري كحمامة صغيرة تمسح بجناحية، لم اشعر بضيق بعدها ابدا.
نظرت لي لأول مرة في حياتها بتأثر، ثم ابتسمت وقالت يعطيك ربي ما تريد، تنهدت بحرقة وقلت من اين يا أمي من العدس، أرمى بخيالات أيامي على الاشجار فتاتي امي وتقطعها، على اتساع هذا العالم لا انه اضيق من خرم الابرة، فلا اخذ منها الا ثلاث، العدس والفأس والشجر، تنافرت الاشياء مني، فلم اعد ارضى بتلك العيشة الضنكة، ولم يعد سقف دارنا يتحمل طموحي.
لذلك قررت ان اغير حياتي وبيدي، تركت امي واتجهت نحو سكة القطار، لم تنبه امي لهروبي او قد غضت نظرها عني، عند سكة القطار جلست انتظر ولسعات البرد تقرصني، افرك يدي ببعضهما، شيءٌ من التراب المُبعثر، ثمة اقدام كانت تنتظر القطار، الراحلين يتركون اثر في هذه الواحة، كوقع انفاسهم، اثار اقدامهم، ذكرياتهم، لتَهبَ رياح الهجرة في قلبي، محملةً بالهواجس، وشيء من الاحلام!، لم تصدق روحي ما فعل جسدي لا انها لبت نداءَ الرحيل، من دون تذكرة من امي، لَمْلَمَتْ سنين العجاف الذابلة، و ابتعدت من العدس والتقطيع الاشجار، انحنى ظهري امي وهي تلم الحطب، وتصلبت اوتارها لكنها لا تتذمر، وتشكر الخالق على هذه النعمة.
اعتاد القرية على سماع صوتها وهي تناغي اولادهم، وتداوي مرضاهم، من دون اجر، وعويلها ليلا تضنى من الشوق، ببكائها بصداها، هي امي ، بعَبرةٌ ساخنة، سامحيني يا امي سأعود ومعي لحم، سمع صوت صفارة القطار، وقف ينظر الى سنابل الحنطة والنخيل، واشجار الصنوبر والفستق، وقف القطار، متردد، قفز عند الباب، اول مرة يسافر من دون امه، طلب الحارس منه ان يسلم بطاقته، لم يملك المال الكافي لدفع البطاقة كل ما يملكه عشرة دينار وقرص خبز والقليل من العدس، شعر الحارس بحزن شديد لحالة هذا الشاب، اجلسه على الارض، المسافة بين القرية والمدينة تصل الى ساعات طويلة، منعكف على ارضية القطار، يرتجف بردا، لا طريق لرجعة ، الخوف من المجهول يلف كل شيء من حوله.
لم يبتعد كثيرا عن قريته، طرت الغربة قلبه، تكابر على روحه واخفى دمعته، قبض على يديه، ساعات مضت ولم يرى فيها امه صوتها، والأصدقاء ، تكاثرت عليه الاشواق، سمع صوت ظن انه الحارس لتفت ليه راه محدقا نحو الاعلى، لتفت الى المسافرين ايضا محدقين نحو الاعلى، ويبتسمون، رفع بصره ثمة شاشة صغيرة عليها حيوانات متحركة، فرد قدمية وعلق نظره عليه، وبدا يضحك بصوت عال، حتى ضحك الجميع على ضحكته، الجميع علموا انه قروي، فملامحة وقطع ملابسه وكلامه تدل على انه من الريف، شد قلوبهم من نقاءه ضحكته.
شارف على الوصول اطلق صفارته، معلنا وصولة الى المدينة، جهزوا حقائبهم وقفوا ينتظرون عند الباب، بقي هو جالس لا يعرف ماذا هناك! فتح الباب خرجوا المسافرين فرحين بانتهاء رحلتهم وصولهم بسلامة، لم يبقى سوى اثنان في القطار، الشاب والحارس، غريبا في هذه المدينة يبحث عن صديق او قريب فلا يجدهم، شعور الخوف يلازمه، لا شيء يسليه غير قراءة ما حفظه من شيخه في القرية، ندفع نحو الباب ، خرج بنظرات مستغربة نحو السماء والوجوه.
كل شيء مختلف هنا اين انتِ يا أمي، نساء سافرات متبرجات، يغمض عينيه عندما تمر من جنبه امرأة، هكذا علمته امه، يستغفر الله كثيرا، لغته كانت تفضحه في المدينة، حتى طريقة طعامه كانت مختلفة عن اهل المدينة، يدور بين الازقه يبحث عن عمل يطعمه لحم والدجاج، اجهده البحث ولم يعثر على عمل بعد، في المدينة من صعب جدا ان يعثر على فرصة عمل، فأصحاب الشهادات لم يعثروا على عمل حتى يحصل عليه من لا يعرف الكتابة ولا لغة ولا مهنته، وجد نفسه في دوامة يدور ويدور، فطرته وحسن ظنه بالله كانت تدفعه نحو الهمة والمتابعة البحث، وفعلا حصل على وظيفة في فندق يقع في منتصف المدينة، سعادته تبكيه ويقبل يده حامدا لله على نعمته، باشر في العمل بدا ينظف الزجاج، ويسقي الاشجار، ويرتب الصحون.
حاول استيعاب مشاعر الغربة وتقبل كلام الناس عنه، غير المنصف والمجحف، فتزداد الغربة مرارة على قلبه، لا احد في الفندق يتحمل عبء العمل الذي يؤديه هذا الشاب، فتراه يصلح وينظف ويرتب، من دون تعب او ملل، فقط من اجل ان يحصل على المال، يتلقط الطعام ويخبئه في جعبته، لا يأكل كل الاصناف فقط صنف واحد ويرفع الثاني، يحمل معه ذكرياته فكلما نظر الى شجرة تذكر الفأس، وينظر الى السماء فتخطر في باله امه فهي صافية كهذه السماء، وكم هائل من الأحزان والأشجان تستوطن قلب هذا الشاب.
مررت الايام ومازال في شغاف قلبه امنيات يرسمها بحجر ويضعها في طريقه، فكلما حقق امنيه رفع حجرا، جمع مبلغ من المال يكفيهما لمدة من الزمن، شعر بالضيق ضيق المكان بل بضيق كل شيء من حوله، قلبه وروحه يطلقان صرخة الشوق لريفه، لزغرده العصافير، لصوت خرير الماء، لقطع الاشجار، لحضن امه ولقدح العدس، أزقت قريته و جدرانها من الطين، سئم من المال ومن الغنى، واكتفى بالذي جمعه، عند الصباح اسرع في شراء " مرهم" يداوي به تشققات يده امه، وقطعة قماش ، وبعض الحلويات التي كان يحلم فيها، مدير الفندق احبه كثيرا، واعطاه كيسا فيه لحم والدجاج وسمك، عند اول رحلة قطار قطع الشاب وعلى كتفه اكياسا، هذه المرة جلس في مكان خاص، وتغير حاله لكنه بقي متواضعا وعلى طريقته الريفية، وعرف ان هذه الشاشة التي أضحكته في رحلته السابقة هو التلفاز، محملا بقبلات الشوق لامه، وكلمات الاعتذار يرتبها على طول الطريق.
غفى وهو يردد مناغاة امه ودموعه تغرق عينيه، لا لحت علامات الريف من بعيد اشجار كثيفة، واغصان متشابكة، ورائحة الخبز تفوح من بعيد، تطاير قلبه من الفرح، وقف قبل الجميع وحمل اكياسه عند الباب، لم يصبر رمى بنفسه من النافذة، مهرول نحو دارهم، بابهم لا تغلق جيدا فيمكنه فتحها بمجرد ان يطرقها بقوة، صرخاته تفيق القرية، امي، امي، يفتش عنها في ارجاء الدار لم يجدها، علم انه في الغابة عند الاشجار، طهى لحم مع فتات الخبز والعدس، وحمل ما طهاه الى الغابة، رجعت الشمس الى أحضان السماء، بعد العناق والتقبيل وعتاب الام الذي طفى على بحر هجرانه، يقدم لها الطعام والاشياء التي جلبها من المدينة، ويصف لها المدينة بسكانها بألوانها بأحداثها، ذاقت الطعام يختلف كثيرا عن ما تطهوه، لكنها احبت عمل ولدها وطلبت من ان يسكب لها قدح اخر من الطعام فقالت له قدح من العدس لا يكفي.