وفي عينيه حياة
زهراء وحيدي
2016-11-05 06:13
لا زالت جملته تلك تنخر جدران ذاكرتي، وتلسع إحساسي الخامل بنظرة حياة جديدة... عيناه النرجسية ذبحتني من هيام الى هيام، فالسحر الذي يكمن في هذا البشري يجعلك تتساءل مع نفسك الف مرة، من أي طينة خلق هذا الإنسان؟، بشرُ هذا أم ملاك؟!، تالله شعرت بأنه وجهُ ملائكي نزل على هيئة طفل.
بينما كنت أجوب الشوارع طولاً وعرضاً أسترق النظر الى وأد الطفولة بين زحام السيارات من أجل إعداد تحقيق صحفي يصف حالة الاطفال وحرمانهم من التعليم بسبب وحش الفقر!، والإستعانة بالشارع للعمل والكدح من أجل لقمة عيش تقيهم وتقي عوائلهم من كفر الجوع، صادفت ذاك الطفل الذي أطلقت عليه إسم "حياة"، على الرغم من كونه صبيا.
سميته حياة لأني وجدت ترانيم الحياة تعزف على أوتار روحه، فالإبتسامة التي تزهر على وجه هبت في روحي إنتعاشة حب!، وجدت في كلامه حياة سحرية تشبه جمال نظراته الخلابة.
صدمني عندما أجاب عن سؤالي كيف ترى الحياة؟ (شلونه الدنيا؟)، أجابني: (جا شبيه... تخبل)، ولأن طعامه يقتصر على الطماطم والبطاطا والباذنجان سألته، انت تتناول هذا الطعام يومياً... الا تمل منه؟!.
فصعقني برده الذي كان يحمل في طياته عزة نفس كبيرة... (ليش شبيه الطماطة والبتيته مو نعمة الله!، الف الحمدلله والشكر). (مرتاح بحياتك؟)، توقعت أن ينفر الحياة... بشتم وسب على هذا القدر الأسود الذي إختاره من بين كل الناس ليجعله في خانة الفقراء!، عالاقل ينبذ حالته الرثة وملابسه المترهلة... لكنه لم يفعل، إجابني بطريقة عفوية والبسمة تهلهل على وجه (اي الحمدالله مادامني عايش ويا اهلي واخواني مرتاح).
أعجبني رده... فالفقر لم تفقده عزة النفس، ولم يمد يده ليستجدي رحمة عابر، على الرغم من صغر سنه الاّ انه يخرج في السادسة صباحا يكدح بشتى انواع الأعمال من أجل توفير المال لأبيه المريض وأمه التي رقدت في البيت تربي اخوانه السبعة.
حقيقة كان جوابه كصعقة كهربائية مست بدني بعنفوان كبير، وزلزلت خلايا جسدي، طفل بهذا العمر الصغير يتكلم بهذا الاسلوب البريء المؤثر الساحر!، كلماته تحمل الكثير من معاني التفاؤل الرضا والقناعة، رغم الفقر وحالة العوز الذي يهتك حياته وحياة عائلته الاَ انه يعيش راحة بال هنية وقناعة تامة بأن الغد سيكون أجمل من اليوم.
على أثر التطورات الحاصلة في التكنولوجيا والعلم والثقافة... ودخول الحضارات الجديدة إلى العالم العربي، وحالة التشتت الاخلاقي الذي بات يعيشه الناس نلاحظ حالة غريبة تزداد يوما بعد يوم وتمد جذورها السامة في أحشاء المجتمع الإسلامي، الا وهي حالة النفور من الواقع المعيشي وعدم الرضا، فقد بات الإنسان يعيش حالة تذمر مستمر من العمل والبيت والشارع ومن أقرب الناس اليه.. وتنتشر هذه الحالة بين جميع الفئات العمرية على حد سواء من الرجال والنساء وحتى الأطفال، فإذا ماتمكن الأب من شراء الايفون 7 لولده إذا هو أب سيء ولم يستطع أن يقدم لعائلته وأولاده حقوقهم الكاملة!.
وإذا سألت الأب هل أنت مرتاح في حياتك.. يجيبك كلا! فليس لدي سيارة "camaro" أذهب بها الى العمل كل يوم!
واما اذا سألت الأم.. فستقول لك حياتي صعبة جدا جدا.. لان جهاز غسيل الملابس التي أستعملها ليست اوتوماتيك، وحالتي النفسية جدا مزرية فبسبب عمل زوجي والتزاماته لم أستطع السفر الى جورجيا هذا العام!، وعلى هذه التراهات يستمر التذمر والتمرد على الواقع!، ونسينا بأن رسول الإنسانية محمد (ص) يوصينا بكنز من كنوز الدنيا والأخرة الا وهي "القناعة"، التي تغافلنا عنها بسبب التطور والغلاء والتنافس المعيشي الذي بات مسيطراً على بيوتنا العربية.
فراحة البال لاتشترى بعملة الدينار والدولار... وحتى إرتفاع اليورو لم يكن جديراً بأن يشتري لنا راحة البال!، القليل من الطمأنينة والكثير من الرضى والحب، سيخلق لنا الحياة الهانئة التي يحلم بها كل شخص حتى وإن كنا نعيش على قيد الظروف الصعبة.
عندما سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن قوله تعالى (فلنُحيِيَّنَهُ حَيَاةً طَيِبَة)، قال هي القناعة (نهج البلاغة حكم229)، فقد أختصر الله سبحانه وتعالى سر الحياة الطيبة بالقناعة، وجعلها أحدى المفاتيح التي تؤدي الى الرضا الذاتي والنفسي.
وعلى أثر القناعة في نفوس العالم، فقد جاء في حكم وقصص الصين القديمة، أن ملكا أراد أن يكافئ أحد مواطنيه فقال له امتلك من الأرض كل المساحات التي تستطيع أن تقطعها سيرا على قدميك. فرح الرجل وشرع يزرع الأرض بأثار اقدامه مسرعا ومهرولاً في جنون، سار مسافة طويلة فتعب وفكر أن يعود للملك ليمنحه المساحة التي قطعها ولكنه غير رأيه وقرر مواصلة السير ليحصل علي المزيد.
سار مسافات طويلة جدا، وفكر في أن يعود للملك مكتفيا بما وصل إليه لكنه تردد مرة أخرى وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد والمزيد، ظل الرجل يسير ويسير ولم يعد، فقد ضل طريقه وضاع في الحياة ويقال إنه وقع صريعا من جراء الإنهاك الشديد... لم يمتلك شيئا ولم يشعر بالاكتفاء والسعادة لأنه لم يعرف حد الكفاية أو "القناعة".
فالقناعة هي الرضا بما قسم الله، ولو كان قليلا، وهي عدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وهي علامة على صدق الإيمان، يقول الرسول محمد صلى الله عليه وآله: (قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقَنَّعه الله بما آتاه).
ومن إحدى العوامل التي تعزز مفهوم القناعة لدى الناس، هو عدم المقارنة المعيشية بين بعضهم البعض، فمن رفع رأسه ونظر الى الأعلى إنكسرت رقبته! فالمقصود من هذا الكلام هو الاعتدال في الحياة، والسعي المستمر من أجل كسب الرزق الحلال وعدم حسد المعيشة والجري وراء المظاهر الخداعة التي ستزول على أثر السنين، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : انظر إلى من هو دونك ولا تنظر إلى من هو فوقك في القدرة، فإنّ ذلك أقنع لك بما قسم الله. (البحار ج 78 ص 198).
من التقاليد في الجامعات الأمريكية هي أن خريجيها يعودون اليها بين الحين والآخر في لقاءات لم شمل، ليتعرفوا على أحوال بعضهم البعض من نجح وظيفيا ومن تزوج ومن أنجب.... الخ.
وفي إحدى تلك الجامعات التقى بعض خريجيها في منزل أستاذهم العجوز بعد سنوات طويلة من مغادرة مقاعد الدراسة وبعد أن حققوا نجاحات كبيرة في حياتهم العملية ونالوا أرفع المناصب وحققوا الاستقرار المادي والاجتماعي.
وبعد عبارات التحية والمجاملة طفق كل منهم يتأفف من ضغوط العمل والحياة التي تسبب لهم الكثير من التوتر وغاب الأستاذ عنهم قليلا ثم عاد يحمل أبريقا كبيرا من القهوة، ومعه أكواب من كل شكل ولون أكواب صينية فاخرة، أكواب ميلامين، أكواب زجاج عادي، أكواب بلاستيك وأكواب كريستال.
فبعض الأكواب كانت في منتهى الجمال تصميماً ولوناً وبالتالي كانت باهظة الثمن بينما كانت هناك أكواب من النوع الذي تجده في أفقر البيوت، قال الأستاذ لطلابه تفضلوا وليصب كل واحد منكم لنفسه القهوة، وعندما بات كل واحد من الخريجين ممسكا بكوب تكلم الأستاذ مجددا، هل لاحظتم ان الأكواب الجميلة فقط هي التي وقع عليها اختياركم وانكم تجنبتم الأكواب العادية؟! ومن الطبيعي ان يتطلع الواحد منكم الى ما هو أفضل، وهذا بالضبط ما يسبب لكم القلق والتوتر ما كنتم بحاجة اليه فعلا هو القهوة وليس الكوب ولكنكم تهافتم على الأكواب الجميلة الثمينة.
وبعد ذلك لاحظت أن كل واحد منكم كان مراقباً للأكواب التي في أيدي الآخرين فلو كانت الحياة هي القهوة فإن الوظيفة والمال والمكانة الاجتماعية هي الأكواب وهي بالتالي مجرد أدوات ومواعين تحوي الحياة ونوعية الحياة (القهوة) تبقى نفسها لا تتغير و عندما نركز فقط على الكوب فإننا نضيع فرصة الاستمتاع بالقهوة وبالتالي أنصحكم بعدم الاهتمام بالأكواب والفناجين وبدل ذلك أنصحكم الاستمتاع بالقهوة!.