سيرة أب
د. ياس خضير البياتي
2023-06-26 03:44
بعد هذا العمر الطويل، تعلمت من الحياة دروسًا كثيرة، لكن الدرس الأول والأهم هو (درس الوالدين) وسيرتهما معي في الحياة؛ حيث إنني بعد فراقهما اكتشفتُ حقيقةً كبيرة وهي الدنيا تُمسي تعيسة بدونهما. فما حنان الكون إلا حنان الوالدين. فلقد أيقنت بأن لا شيء يعدل في هذا الوجود أبًا، وبأن بر الوالدين هو دِينٌ ودَيْن؛ الأول يأخذك إلى راحة الدنيا والجنة في الآخرة، والثاني يرده لك أبناؤك (بِرُّوا آباءكم تبركم أبناؤكم). إنها قصة ينبغي أن نُحسن كتابتها لكي نرويَها للأبناء. قصة الوالد، هي قصة من التضحيات ونكران الذات. فقد ولد في بغداد بمنطقة الفضل من أسرة متوسطة الحال، وأفرادها من كل لون سياسي، كما في جميع الأسر العراقية، لكنها عروبية الاتجاه، ماعدا الوالد فقد كان ينتمي للحزب الشيوعي، حيث فصل من وظيفته أكثر من مرة، وسجن مرات عديدة في الملكية والجمهورية.
بدأ الوظيفة مبكرًا، موظفًا في السكك الحديد، يتنقل بين محطات السكك من الشمال إلى الجنوب، وهو خريج الثانوية المركزية في بغداد. عاصر أزمانًا مختلفة بنظمها السياسية وأحزابها المختلفة، وجرَّب حياة المدينة والريف، وأهلهما على مختلف دياناتهم وطوائفهم وقومياتهم، وعاش أجواء العراق الحارة والباردة والرطبة، وتحديات الطبيعة الصعبة والسهلة، فخرج بحصيلةٍ حياتية عميقة في فهم الحياة والسياسة، وبمخزونٍ كبير من الحب للعراق.
أتذكَّر أنه قال لي، ونحن في (قطار أبي)، كما كنت أسميه في طفولتي: الذي يرى العراق كله، ويعيش بين أهله، يزداد تعصُّبًا بعشقه، ويهيم شوقًا بأرضه، ويمرض جسدًا بحبه. لذلك كانت حصيلة العيش معه، أنه رسَّخ قِيمَ الوطنية في الأسرة والأبناء، ورفع منسوبها إلى أعلى المستويات، مثلما رسَّخ قيم البغض للطائفية ونبذها، وأعلى من شأن الأسرة، من خلال تفاعلها مع جميع الطوائف والقوميات والأديان، وفتح لنا نوافذ الثقافة من كل الجهات، وعلَّمنا فنَّ التواضع في الأحاديث ومجالس الأسر، خاصة الفقيرة منها؛ لذلك كان يطلب من الوالدة، بحكم وظيفته ناظرًا للمحطة، زيارة بيوت العمال باستمرار، وتقديم العون لهم بدون مِنّة، وبدون خدش مشاعرهم، والتعالي عليهم.
كان والدي متعصبًا للعمال، وعاشقًا لهم، ومدافعًا عن حقوقهم، وهو الأمر الذي دفعه للانتماء للحزب الشيوعي في بداية فترة شبابه. فقد قضى معظم عمره في العمل معهم؛ فعايشهم في تفاصيل الحياة اليومية، وجالسهم على موائدهم البسيطة، وصنع بنفسه لهم الشاي والطعام، ولبَّي رغباتهم وحاجاتهم الحزبية، وتألَّم لمعاناتهم في العمل المضنى، والفقر المدقع، وحال التعاسة التي تلتهم أيامهم ولياليهم وأسرهم.
منذ الأيام الأولى لطفولتي شعرت بأن التعب يغمر أبي بقوة، فهو مثال التفاني والبذل والعطاء بلا مقابل. فقد كانت طبيعة وظيفته ناظرًا للمحطة شاقة ومتعبة؛ حيث يصل نهاره بليله، فلا يعرف للنوم معنى ولا راحة؛ من أجل التحكُّم بمسار القطارات وتنظيم سيرها على خطوط السكك. لم يَحن ظهر أبي تلك المشاق التي كان يحملها، ولم أسمع منه، ولو لمرة واحدة، أنين التعب؛ لكن قلبي كان يؤلمني من ثقل التبِعات الملقاة عليه، وحساسية عمله وخطورته، فأي خطأ في التوقيتات يؤدي إلى تصادم القطارات الذاهبة والقادمة؛ مما يُسبب كارثة بشرية تفوق التوقعات. أما في البيت فقد كانت شخصيته طاغية على الأسرة، فقد كان شديدًا وحريصًا في التربية، خاصة مع الأبناء: فقد كان لنا موعدٌ محددٌ للخروج من البيت والعودة إليه، وكان ذلك راجعًا لحرصه واهتمامه بدراستنا وتفوقنا فيها، بالإضافة إلى خشيته من رفاق السوء علينا. كانت عصاه جاهزةً في أي وقت لضبط مخالفاتنا وتصرفاتنا الخارجة عن تعليماته.
وما أكثر تلك الأيام التي وقعت بها في مصيدة العقوبات. ومع ذلك كان أبي أبًا رائعًا في العطاء والتضحية، وطيبًا بلا حدود، رغم سلوكه العصبي وانفعالاته القوية، ورغم أنه كان يثور بسرعة فإن ثورته هذه سرعان ما كانت كان تنطفئ بقوة الطيبة؛ لذلك كان يهرب من المواجهات المباشرة، ويحرص على الابتعاد عن المشاكل التي تؤدي إلى إثارته.
وأعترف بأنني أخذت منه حصيلة العصبية التي كنت لا أود أن أُصاب بها؛ لأنها أوقعتني بحرج متكرر مع الآخرين، وأضاعت مني فرصًا كثيرة كانت لصالحي. كما كنت سعيدًا بأنني أخذت منه الطيبة، وثقافة الاعتذار، ومواجهة الآخرين بالصراحة الشديدة، دون “لف أو دوران”، كذلك تحلَّيت بالابتعاد عن مجاملات المكر والخديعة والنفاق والانتهازية.
كان للوالد دورٌ ريادي في توسيع مداركي لفهم الحياة، وتحفيزي على أرض الواقع، قولاً وعملًا، لتحليل ما يحدث، خاصة بعد دخولي المرحلة الثانوية، والبدء بدراسة موادها الدراسية المتنوعة، وقراءة بعض الكتب في مكتبته المليئة بأدبيات الحزب الشيوعي ونشراته، وكتب الماركسية، والفلسفة والتاريخ والاقتصاد والروايات والقصص.
كما حلَّ لي لغز الحياة السياسية، وصراع الأحزاب العراقية واتجاهاتها الفكرية.
وكان حريصًا على تثبيت فكرة “المصالح” في عقلي، باعتبارها “مربط الفرس” في السياسة العراقية؛ فقد شعرت بحزنه العميق وهو يتحدث عن شباب الأحزاب الذين صاروا وقودًا لقادة الأحزاب ومصالحهم.
كان يستشرف المستقبل بوعي مبكر بخبرته وتجاربه التنظيمية والحياتية، وعندما أرى ما جرى للعراق من فواجع مختلفة، أتيقّن بأنه كان محقاً في نظرته للأحزاب العراقية التي لم تقدم للناس سوى مصالحها الذاتية، وتثويرها للأزمات والاقتتال الداخلي، وإشعالها للحروب، وتفقيرها للناس، وطوفانها للدم والكراهية.
لذلك اكتشفت وأنا في بداية تفجُّر الوعي، بأن السياسة في العراق لا تخرج إلا من عباءة المجتمع العراقي الذي يُعاني من تناقضات المكان الاجتماعي وعنفه، وتقاليده المريضة، وموروثاته التاريخية. كذلك يُسجَّل للوالد حرصُه الشديد على الأسرة، وتلبية رغباتها، حتى في أقسى أيام العِوَز، حيث أحدث توازنًا في متطلبات التربية، ووعياً بمتغيرات الزمن، وتقلباتها وظروفها. فقد فتح أبواب الحوار، واغلق نوافذ التعصب والرأي الواحد، وأعطى الحرية للأبناء في اختيار الفكر والوظيفة وشريكة الحياة، لكنه احتفظ بشروطه القاسية: ألا نصبح رهنًا للفكر المتعصب، أو نلبس رداء الطائفية البغيضة، وأن يكون حزبنا الأوحد، وبيتنا الوحيد هو (العراق). رحم الله الوالد الذي علمني أن أكتب حروف العراق بالقلم العريض!