القرآن في النهضة الحضارية
الجزء الثالث
محمد عبد الجبار الشبوط
2020-06-02 07:19
الذي افهمه من القران الكريم وبخاصة القسم المكي منه، ان يركز على معالجة التخلف الحضاري في المجتمع قبل الدخول في مجال اسلمته او اقامة دولة اسلامية، باي معنى كان. وحتى تركيز القران على الشرك سببه ان القران يعتبر الشرك خللا، تخلفا في الفكر. فانت اما ان تلغي وجود الله من حياتك وتبنيها على هذا الاساس، او تؤمن به وتمشي في هذا الطريق. اما ان تؤمن بالله، بكل ما يمثله من صفات عليا مطلقة، ثم تؤمن بوجود الهة اصغر منه الى جانبه، فهذا تخلف. ولهذا لم يناقش القران عقيدة انكار وجود الله، لكنه ركز على عقيدة الشرك بالله، واتخذ منها موقفا حاسما وقاطعا قائلا، على سبيل المثال:
"إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا".
ومن هذه الزاوية سنفهم بقية الايات القرانية التي يبدو ان هدفها الاكبر هو القضاء على التخلف، سواء في المجتمع العربي انذاك، وفي اي مجتمع اخر، لان المجتمع، اي مجتمع، سوف يفقد القدرة على الانتاج، والاستمتاع بالطبيعة، اذا اصيب بمرض التخلف، اي اذا تعرض المركب الحضاري الخاص به الى الخلل الحاد، الذي سوف يمنعه من التفكير السليم والعمل المنتج.
ولهذا نجد ان القران الكريم يحارب بلا هوادة اللاعمل، اي الكسل والقعود والعطالة والخمول والاتكالية، وليس اوضح من الاية التالية للدلالة على ما اقول: لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا".
واذكّر مرة اخرى بمعنى عبارة "في سبيل الله"، انها تعني الخير العام والمصلحة العامة، وسبيل الانسانية. ويكون معنى الاية ان الذين يجهدون انفسهم من اجل المصلحة العامة افضل من "القاعدين" الذين لا ينخرطون في اعمال تستهدف الصالح العام.
ولهذا وجدنا القران يكثف الدعوة الى استثمار الارض، بما فيها، وما عليها، وما فوقها، كما في قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ".
ويصلح هذا النص للإيمان بان الاصل الاول في وظيفة الانسان في الارض هو اعمارها واستخراج خيراتها وثرواتها. وهذا هو المعنى الجوهري للعمل، كما يسمح لنا باستخراج الاصل الثاني وهو ان ملكية الارض العامرة طبيعيا وثرواتها الظاهرة و "المواد التي لا تحتاج الى مزيد عمل وتطوير لكي تبدو على حقيقتها ويتجلى جوهرها المعدني كالملح والنفط" (التعريف لمحمد باقر الصدر)، هي ملكية عامة وليست ملكية خاصة، ومنها نستخرج الاصل الثالث وهو ان العمل هو مصدر الملكية الخاصة، وليس مصدر القيمة، كما يقول الاقتصاديون الماركسيون، واذا تصورنا مجتمعا اقام حياته الاقتصادية بموجب هذه الاصول، فاننا سنرى مجتمعا منتجا اكثر من كونه مستهلكا.
واذا اضفنا الى مبدأ وفرة الانتاج المبدأ الاخر الذي يؤكد عليه القران، وهو العدل، امكننا ان نصوغ المعادلة السليمة للمركب الحضاري لاي مجتمع وهي: تنمية الانتاج وعدالة التوزيع. والهدف في الحالتين هو الانسان، فالانتاج الوفير والتوزيع العادل يستهدف تحقيق السعادة والرفاهية للانسان في حياته الدنيوية. اما حياته الاخروية، ان كان من المؤمنين بها، فهذا شأنه الخاص، يعالجه فيما بينه وبين ربه مباشرة.
وهذا كله هو ما تلخصه آيات اخرى من القران تقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"، "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ولا تحتاج هذه الايات الى تفسير.