حركة التشكل والانكماش في الهوية الوطنية العراقية
مسلم عباس
2019-04-18 07:44
رغم مرور عقد ونصف على سقوط الحكم الديكتاتوري في العراق، لا تزال الهوية العراقية تترنح بين سطوة الطائفية، بتقسيمها بين سنية وشيعية، وقومية كردية وعربية، وما بين هذه التقسيمات لا تزال العشائر اقوى من المؤسسات البيروقراطية لدولة تريد للقانون ان يكون صاحب السلطة الأعلى.
سيطرة داعش على بعض المحافظات الغربية كانت شاهدا على هشاشة بناء الدولة العراقية، لكن بعد هذه الحرب تغيرت الأحوال قليلا، فما قبل داعش كانت الطائفية هي اللافتة الاعلانية المميزة لكل سياسي، بينما لم تعد هذه اللافتة مفيدة بعد اعلان النصر على داعش، وهو ما عده بعض المتابعين بداية لمرحلة جديدة من البناء لهوية عراقية اكثر تماسكا.
التفاؤل الحالي الذي يسود الساحة العراقية نابع من المخاوف الانية التي رافقت الحرب الطائفية، لذلك يتصور البعض ان نهاية الأفكار الطائفية تعني إزالة تهديدات انهيار الدولة العراقية الجامعة، الا ان بناء دولة حديثة هي عملية اكبر من طائفة وقومية، انه نظام متكامل.
هذا الموضوع كان محط اهتمام الباحثة الامريكية فيبي مار، في دراستها الموسومة "عراق واحد ام عراقات؟ ما الذي حدث للهوية العراقية؟" تتبع فيها جذور تكوين الهوية العراقية، وتصل الى استنتاج ان هناك ثلاثة مكونات للهوية العراقية بالإضافة الى مكونات أخرى اقل أهمية وهي كالاتي:
أولا: صلة القربى (العشيرة)
ان تنظيم السلطة والعلاقات الاجتماعية استندت الى "شبكات الأنصار والتابعين" ولا سيما أولئك المرتبطين باواصر القربى، والاعتماد على البنى القرابوية والاواصر الشخصية للثقة تولدت جراء وجود ثقافة سياسية سائدة قد تمتاز بكونها بدائية.
وبقيت القرابة الأساس الجوهري للهوية بالنسبة لمعظم العراقيين اليوم، متغلبة على اشكال أخرى للهوية. وبينما كان ثمة الكثير من العواقب السياسية لهذا الامر، فثمة جانب واحد يستحق الملاحظة هنا، فالاواصر القرابوية القوية بدلا من التأكيد على الفردانية (كما في الغرب) جعلت من الصعوبة للغاية للعراقيين التوحد على أساس المصالح المشتركة.
صلات القرابة هذه جعلت بعض الأحزاب تتشكل على أسس عائلية، وبعضها يحمل اسم العائلة نفسها، ما عزز من هذه الاتجاه حتى بعد سقوط النظام الديكتاتوري الذي ساهم كثيرا بنمو العشائرية وعلاقات القربى على حساب العلاقات الرسمية.
ثانيا: الطوائف الدينية
تعود جذور الخلافات الطائفية الى عوامل سياسية، جراء الصراع بين الدولة العثمانية والامبراطورية الفارسية، وقد تنامت جراء ثلاثة قرون من الحرب المتقطعة (تقريبا من عام 1514 الى عام 1823)، وخلال تلك الفترة ظهرت الحركة الوهابية التي هاجمت مدينتي كربلاء والنجف لتزيد من الشرخ الطائفي وتعزز من الصراع بين الطرفين، اذ ترى الطائفة الشيعية انها مستبعدة اجتماعية وسياسيا نتيجة السيطرة السنية على مفاصل الدولة، بينما ترى أجهزة الدولة ان السكان الشيعة هم طابور خامس للدولة الفارسية.
وحتى التحديث الذي بدأ في القرن التاسع عشر والتحول نحو العلمانية كان عاملا إضافيا للخلاف اكثر من كونه وسيلة للاندماج الاجتماعي والسياسي والديني بين الطئفتين، اذ تطلب النظام الجديد تعيين رجال يحوزون على تعليم اكثر كفاءة وحداثة في الجهاز الحكومي، بينما لا تزال المدارس الدينية هي المسيطرة على الوجود الشيعي في جنوب العراق، لا سيما مع الدور الواسع الذي حظيت به المرجعية الدينية.
ثالثا: الطوائف اللغوية
وثمة مصدر ثالث للهوية _ اللغة والعرقية الثقافية المرتبطة عادة بها_ لم يبدأ النظر اليه بوصفه مصدرا للهوية الوطنية بين بعض المثقفين الكرد والعرب الا في أواخر القرن التاسع عشر، حين بدأت الأفكار الغربية للقوية بالتغلغل بي أوساط الشباب والمجموعات المثقفة الحضرية ممن كانت على اتصال بالافكار الغربية الحديثة.
تطورت الحركة القومية عند العرب والكرد فيما بعد لتتحول الى مصدر أساسي في التكوين السياسي العام للعراق، ولا تزال هذه الهوية حاكمة حتى هذه اللحظة الراهنة، اذ تمثل كركوك مصدر هذا الخلاف والمادة 140 من الدستور، التي كادت ان تؤدي الى نشوب صراع دموي خلال فترة حكم رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، وقبله نوري المالكي، اذ يرى الكرد احقيتهم ببعض المناقط ويدعون لسيادة سلطة الإقليم الكردي على هذه المناطق الشمالي التي باتت تسمى "المناطق المتنازع عليها".
وفي اطار الحديث عن مكونات الهوية العراقية، هناك الهويات المناطقية فمنطقة البصرة مثلا تكونت هويتها نتيجة احتكاكها بالموانئ وحركة التجارة العالمية، بينما تكونت في الموصل هوية مناطقية ارتبطت كثيرا بالجزء الشرقي من سوريا عبر العلاقات التجارية والروابط القبلية، بالإضافة الى علاقاتها الجيدة مع الاتراك.
لكن الهويات المناطقية كانت ولا زالت اكثر غموضا من الناحية السياسية مما عليه الامر بالنسبة للهويات القبلية، والى حد اقل الهويات الطائفية.
الدولة العراقية الحديثة بدأت تبحث عن هوية جديدة مع فترة الانتداب البريطاني، اذ أرادت بريطانيا اذابة هذه الهويات في اناء واحد اسمه العراق، فقامت بتعريب الدولة الى حد كبير بعد ان كانت التركية هي المسيطرة، وادخلوا انموذجا سياسيا جديدا للحكم، وهو النظام البرلماني على النمط الغربي مع ملكية وانتخابات (غير مباشرة في البداية) وتاسيس أحزاب سياسية، ونوع من المفاهيم الليبرالية، على غرار حكم القانون وحرية الدين وضمان حقوق الأقليات.
وفي اطار إعادة تشكيل الدولة اعادوا بناء الجيش والبيروقراطية، واستندت الدولة الجديدة الى درجة عالية من الفصل بين الدين والسياسةوشجعت تراثا قويا نسبيا، كما ان انتاج النفط العراقي ساهم في توفير دخل مهم للاقتصاد الوطني.
ايجازا يمكن القول ان مسألة الهوية بوصفها حصيلة لجهد البريطانيين ببناء الدولة والنخبة التي منحوها السلطة، وبزغت الى الوجود دولة جديدة وفاعلة، غير ان الكثير من النخبة الحاكمة قد ركزوا على هوية عربية وكانوا يهدفون على دمج العراق بعالم عربي أوسع، وقد اوجدت الرؤية القومية والعلمانية مشكلات في نطاقين:
الأول: بين الكرد، ممن لا يمكن تعريفهم على انهم عرب.
وثانيا: اوجدت توترا ينطوي على حساسية بين الشيعة ذوي التوجه الديني، فقد كرهوا علمانية الدولة، وخشوا من انه في دولة عربية اندماجية كبيرة فان طائفتهم ستصبح غير ذات قيمة من الناحية العددية.
المشكلات الأولى لتاسيس الدولة العراقية لا تزال تراوح مكانها، فالكرد يعتزون بقوميتهم بشكل مفرط، لدرجة اجراء استفتاء الانفصال عام 2017، بينما لا تزال القوى الشيعية تخشى من الوجود العربي في العراق لدرجة انها تفضل العلاقة مع ايران اكثر من السعودية او غيرها من دول المنطقة العربية، والسبب تلك الترسبات الطائفية القديمة وما اضيف لها حديثا، وما بين المكونين الكردي والشيعي هناك السطوة العائلية التي تتعزز في كل الاتجاهات خالقة فعلا تأثيريا اكثبر من الانتخابات البرلمانية ومجلس النواب عموما.
الهوية العراقية الجامعة، التي نبحث عنها منذ عام 2003 وحتى الان في حركة دائمة من الانكماش مع تزايد الصراعات الداخلية على السلطة، والتدخل الخارجي لترجيح طرف على اخر.