عصفور في اليد
علي حسين عبيد
2018-11-03 04:18
قبل أكثر من نصف قرن، أتذكّر أن هناك من حاول أن يعلمنا على الربح الآني، وعدم التخطيط للربح المستقبلي المضاعف، لكن كان عليهم أن يجعلونا أكثر صبرا على قطف الفوائد، ويبيَّنوا لنا أن التعجّل يذهب بصاحبه نحو طرق لا تقوده إلى الأهداف الصحيحة لأنها غالبا ما تكون غير سالكة، أو أنها تقدّم فواد قليلة عاجلة وقد تكون آنية، لكن يجري ذلك على حساب النتائج الكبيرة التي تتمخض عن الصبر والسير المتأني والتفكير السليم، ومن ثم الابتعاد عن الفوز بالآني وترك المستقبلي كونه يستغرق تفكيرا أعمق ووقتا أطول.
في أحد دروسنا السابقة حين كنا أطفلا قرأنها النص التالي: (عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة)، وها يعني أنك يجب أن تتمسك بالعصفور الواحد وتترك العشرة، لماذا؟ لأن الشطر الثاني يحتاج إلى صبر وتأنٍ وتفكير وتخطيط قد يكون متعبا بع الشيء حتى ننال العصافير العشرة بدلا من الواحد، بالطبع هناك من ينظر إلى العصفور الواحد على أنه فرصة ربما لا تسنح له مرة ثانية، لذلك يلغي تفكيره بالعشرة الآخرين لأنها ستتعبه، وبعضهم يضع في باله مسبقا أنه من المستحيل الحصول عليها لذلك يكتفي بالواحد على أنه صيد آني ثمين.
هذه المقدمة تقودنا إلى أهمية أن يُبنى الإنسان في العراق على قاعدة التفكير والتخطيط بعيد المدى، حتى في مجال صناعة الأرباح، أو تحقيق الفوائد السياسية، وفي أي مجال كان، فإن التفكير الآني المتعجل يمكن أن يمنحنا فوزا وربحا سريعا لكنه يقل عشر مرات عن الربح بعيد المدى أو الإستراتيجي، لها السبب لاحظ مفكرون متخصصون أن التفكير الاستراتيجي هو الذي نقل المجتمعات الى مدار التقدم، من خلال الابتكار الدائم وتنمية روح الإبداع، ونبذ الفكر السطحي او الآني المتعجل.
وتمكن العالم هنري منزبرج (Henry Minzberg) في عام (1994م) أن يضعَ مفهوم التفكير الاستراتيجي في إطار أكاديمي واضح، وحدد غاياته وأبعاده ووضع حدوده مع المصطلحات الأخرى، فقد أشار الى أن التفكير الاستراتيجي هو طريق خاص للتفكير، يهتم بمعالجة البصيرة، وينجم عنه منظور متكامل للمشروع، من خلال عملية تركيبية ناجمة عن حسن توظيف الحدس والإبداع في رسم التوجهات الإستراتيجية. وهذا يصبّ في روافد اللجوء إلى التفكير العميق وغلق بوابات التفكير السطحي الآني، وأن نبتعد عن اعتبار أن العصفور الواحد جائزة كافية لأنها آنية، ونترك عشر أضعافها لأنها ليست قريبة أو لحظية المنال.
الثقافة السائدة في التفكير الجمعي
بالطبع هذا يتبع ثقافة المجتمع، وطبيعة البيئة التي ترعرع فيها العقل والتفكير، فهناك مجتمعات قد تهمل الغد بكل تام، ولا تفكر إلا في سد رمقها اليوم، وقد ردّد العراقيون مثلا شعبيا معروفاً يقول (عيّشني اليوم و موتني باجر)، وهذا مثال صارخ عن الثقافة السائدة في التفكير الجمعي والفردي لدى العراقيين، إذاً يعتمد التفكير الإستراتيجي على الابتكار وتقديم أفكار جديدة يصعب على المنافسين تقليدها إلا بتكلفة عالية أو بعد وقت كبير، ومعظم الأفكار الجديدة في مجال الإدارة ظهرت في مناخ ديمقراطي يسمح باشتراك أكبر عدد من الأفراد مع إعطائهم أكبر قدر من الحرية المنظّمة في التعبير عن آرائهم وعدم فرض أية قيود على الاقتراحات والأفكار المقدمة منهم، بل يتم تقييمها في مرحلة لاحقة وتقديمها لضمان وجود أكبر قدر ممكن من الأفكار والمقترحات البنّاءة، فكثير من الأفكار الخلاقة بدأت بأفكار كان من الصعب تصديقها، وقد يكون من المستحيل إقناع الفرد العراقي بأن العصافير العشرة على الشجرة أفضل له مستقبلا من العصفور الواحد الذي صار بحوزته الآن.
لذلك وكما تُظهر الدلائل أن هنالك ميول جمعي نحو التفكير الآني الذي غالبا ما ينحصر بالفائدة الذاتية السريعة، من هنا حين يضيق أفق التفكير وينحصر بالذات من حيث الفائدة، وبالآنية من حيث البعد أو الزمن، سوف تبقى الفوائد والنتائج المرتجاة من التفكير الآني ذات طابع فردي، فضلا عن كونها تفتقر لسعة الأفق والذهاب بعيدا في حياض المستقبل، وهذه سمة التفكير الاستراتيجي الذي يتميز بسعة الآفاق، وتعدد الأبعاد وتناسل الفرص، بالإضافة الى تميزه بالفائدة ذات الطابع الجمعي أو الكلي، وهكذا يكون الفارق بين النوعين من الثقافة والتفكير كبير وحين يضيّع الأول ربحية مستقبلية عالية للمجتمع، فإن الثاني يضمن أرباحا هائلة على المدى المتوسط والبعيد.
كيفية مواجهة تحديات العصر
هذا البون الشاسع بين نمطين من الثقافة والتخطيط والتنفيذ يثبت أن النمطين مختلفين في الأسلوب والنتائج، إذ أن أحدهما فردي منحسر ضيق الأفق، والآخر جمعي كلي ينحو الى البناء الاستراتيجي، لهذا تتميز المجتمعات المتقدمة بكونها تذهب إلى النوع الثاني من التفكير، على الرغم من أنها تحترم الفردية، ولا تحجّم الرأي أو الفكر الفردي، بل تطلق العنان للفرد كي يبدع ويطور قدراته ومواهبه، وتحثه على ذلك وتوفر له المجالات والظروف التي تساعده على استثمار طاقاته المتنوعة الكامنة والظاهرة، لذلك حينما تفضّل الدول المتطورة طريقة البناء الجمعي الاستراتيجي، فإنها لا تقف أمام توجهات وتطلعات الفرد في تفكيره وإبداعه، إنما تدعمه في تحقيق ذلك، لكنها ابتداءً تمدّه بأسباب ووسائل التطور وتدعمه ماديا وعلميا ومعنويا، لهذا تكون النتائج باهرة ومرموقة.
لكن في العراق وهو من المجتمعات المتأخرة بحسب التصنيف العالمي، يحدث تناقض غريب في هذا الجانب، فالمجتمع على الرغم من كون منظومته السلوكية ذات طابع فكري ينحو الى الفردية ويفضل الذات، من خلال التفكير الآني الذي لا ينظر الى المستقبل، ولا يتعامل مع الأفق البعيد، ولكنها - المنظومة السلوكية- تقمع الفرد وتقصيه أيضا، وبهذا يتحول الانسان في المجتمعات المتأخرة الى كائن مقصيّ وفاشل لسببين:
الأول: أن تفكيره آني سطحي يفتقر للعمق ولا يذهب بعيدا في آفاق المستقبل.
الثاني: يتمثل بحالات الإقصاء التي يتعرض لها، لاسيما الإقصاء الحكومي الذي يهمّش مواطنيه، باستثناء الذين يصطفون الى جانب السلطة من اجل المصالح الآنية، وهم فئة لا تشكل نسبة كبيرة من المجتمع.
في الآخر نحن في مواجهة تحديات العصر، وتغيير التفكير والسلوك تبعا له، بات أمراً ملحّا غير قابل للتسويف أو التأجيل، أو بقاء الفرد العراقي مشغول بنفسه ومصالحه، وليذهب الجميع للجحيم كما يُقال، هذا التفكير لا ينمّ عن تساوق مع ما يجري في عصرنا، ولا يصح في أي حال أن تغفل الحكومة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسة العلمية ومراكز البحوث وكل من يهمه الأمر التأسيس والتخطيط لقلب المدارك وتحديث ردود الأفعال إزاء القضايا التي يمكنها رفع المنسوب العلمي السلوكي إلى أقصاه، بما يضمن الإيمان والعمل على أن الربحية الآنية لا تخدم بناء الدولة ولا ترتقي بالمجتمع، وتحصيل الحاصل هنا رداءة بيئة الفرد فيكون الخاسر أيضا من بين جمع الخاسرين الذين يهملون النفع البعيد الأكبر، مقابل الحصول على القليل الراهن.