ما قبل الرفاهية!

علي حسين عبيد

2018-03-25 06:55

لا يحلّ الإنسان ضيفاً على المعمورة، ولا يولد في عالمنا هذا إلا وحمل معه مواهبَ تنبض بالحيوية، وقادرة على أن تدفع الفرد الموهوب وعائلته ومجتمعه أشواطا إلى أمام، حتى لم لم تتوافر له فرصة التعليم لأي سبب كان، ذاتي أو عائلي أو مجتمعي، فهو يبقى حاوياً في جعبته مواهبه التي تجعل الحياة أكثر نبْلا وسعادة وعدلا.

ولكن هناك من البشر من يقتل مواهبه بنفسه، وقد تكون العائلة لاسيما الأب والأم عاملا مساعدا أو سببا مباشرا لقتل الموهبة أو ضمورها، ثم لدينا المجتمع الأكبر، فهو أيضا قد يسهم بطريقة أو أخرى في تدمير الموهبة، ويحد من الابتكار من خلال تقويض التطلع إلى عالم وواقع أفضل، ومن المؤسف أن الكثير من العقول لا تعرف قيمة نفسها، ولا قدراتها، فتنسف مواهبها بألف طريقة وطريقة، فنرى أن الإنسان من هذا النوع، يأتي الحياة ويخرج منها، من دون أن يترك له أي أثر.

في حين أن الهدف الأسمى للإنسان في هذه الدنيا ينبغي أن يتركّز على ما يضيفه إلى العالم من ابتكار وعلم وثقافة وآداب وأفكار كبيرة، فعندما نتأمل المراحل التي قطعها الإنسان، من حياة الغاب الى حياة القرية العالمية التي وحّدها الإنترنيت، وحياة الإنتاج التقاني المذهل، والرفاهية غير المسبوقة، سوف نقرّ بأن الأمم والمجتمعات المتقدمة، هي تلك التي انشغلت بخفايا الابتكارات وذللت المصاعب أما العقول والمواهب، حتى العقول نفسها لم تنشغل بالتوافه، بل أجبرت نفسها على رعاية قدراتها ومواهبها واستثمارها للصالح الذاتي والخارجي الجمعي، فطوّرت إمكاناتها ووظفتها لصالح دفع الحياة إلى أمام ولم تنشغل بأي هدف جانبي يمكن أن يعطل اندفاعها إلى أمام.

الفكر والابتكار قبل الرفاهية

هذا ما نحتاجه في العراق، نبحث عن إنسان لا تشغله الصغائر ولا يضع لواهي ومغريات الحياة في مقدمة انشغالاته، ولا يضع الطعام وأشكاله ونماذجه هدفا له إلا بقدر متطلبات البقاء على قيد الحياة، حتى الرفاهية التي تحقق الآن للشعوب المتطورة، لم تكن هدفها الأول، بل قدمت هذه الشعوب ما يلزم من الجهد والكد والعمل والذكاء والسهر والأموال، لتحقق أولا نجاحات في العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والطب وسواه، بمعنى أنها لم تكن تسعى الى الرفاهية قبل الفكر، ولم يكن الطعام ونوعيته غاية لها، على الرغم من أن الرفاهية ومذاق الطعام الأفضل ومظاهر الترف، من الأهداف التي تسعى إليها الشعوب المتقدمة، لكنها في حقيقة الأمر قطعت أشواطا مهمة وصعبة من الجهد المبذول في مجالات العلم والتطور، قبل أن تنشغل بالرفاهية أو مذاق الطعام ونوعه وأصنافه!، هذا الدرس نحتاج له في العراق وعلينا حكومة وشعبا وقطاعا خاصا أن نبذل المزيد في هذا الاتجاه لرأب الصدع في حياتنا، وتحويل قدراتنا العقلية والعلمية إلى نتائج يمكن أن نلمسها لمس اليد.

لذلك يحذر العلماء المبرزون من ذوي الوجود العميق، من التوافه التي قد يبهر خارجها وشكلها العقول، لكم ما أن تتوغل في الباطن حتى تكتشف الهشاشة والخلل، فالمجتمع الذي يهتم بالأكل ومذاقه ونوعه أولا، ستنطبق عليه المقولة المعروفة التي تقول نحن نعيش لنأكل، لكن العكس تماما هو المطلوب،أي أننا نتزود بالأكل ليس من أجل ملذاته وإنما غايتنا استمرارية الحياة، لذا من أهداف المجتمع الناجح المهمة أن نأكل لنعيش ونبدع ونتطور، وليس العكس، ولعلنا نلاحظ في واقعنا العراقي الراهن مؤشرات تشي بأننا شعب يهتم بالأكل أكثر من الفكر، ويبدو أننا نلهث وراء أنواع الطعام الفاخرة، أكثر من بحثنا عن الكتب التي تكتنز بالأفكار القيمة وتحث على الابتكار والإبداع في ميادين الحياة كافة، كذلك ثمة ظواهر كثيرة تنتشر بيننا، وتظهر بوضوح في واقعنا، كلها تشير الى أننا لا نمنح الفكر والتجديد والتغيير ما يكفي من الاهتمام، كما نمنح ذلك للأكل كغاية يمكن أن تكون عائقا ضد الابتكار!!، فهل تحولنا الى شعب يعيش كي يأكل؟ وهل أصبح الطعام ومذاقه اللذيذ هدفنا؟ وهل صرنا مجتمعا استهلاكياً نمطيا لا يجيد سوى التهام الطعام، ولا يعنيه الابتكار والإنتاج والتطور بأي شيء؟.

فشل المجتمع المستهلِك

بالطبع لا يمكن أن نحصر هذه القضية بالعراقيين فقط، فهناك مجتمعات توصف بهذه الصفات الاستهلاكية أيضا، ولك هذا لا يعني أننا نقلّد الآخرين بالنمط الاستهلاكي ونترك أو نبتعد عن الابتكار وهو إكسير الحياة، إن هذه الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا، ليس الغرض منها الانتقاص من قيمة الفرد او الدولة او المجتمع، ولكنها نوع من التنبيه الى ظاهرة باتت واضحة، وتشكل خطرا جوهريا على الدولة والمجتمع، لأننا أصبحنا مجتمعا استهلاكيا بالكامل، لا يرعى مواهبه، ولا يطمح لاقتحام عالم الابتكار، فعندما نلقي نظرة متفحصة ودقيقة على السلع المستوردة والتي غصّت بها أسواقنا وبطوننا، سوف نصاب بالصدمة حقا، لأننا صرنا مستهلكين فقط، لا نصنع شيئا في البلد من إبرة الخياط الى السيارة والطائرة، إننا نصدر النفط، ونحصل على مليارات الدولارات، ثم نستهلك ونأكل من دون أن ننتج شيئا، ولو أننا لا نملك النفط، لأصبح حالنا حال الصومال من حيث المجاعة التي تصيبها وتصيب دولا افريقية عديدة، هل نحن نغالي في كلامنا هذا، أم أننا نتحدث عن واقع نعيشه فعلا؟، كل هذا يحدث لنا لأننا كما يبدو: شعب يعيش ليأكل، وليس يأكل ليعيش. فأين قيمة الإنتاج، ولماذا لا ندرك قيمة أن نأكل من اجل الإبداع وليس العكس؟!.

إن المقولة العظيمة (نأكل لنعيش، ولا نعيش لكي نأكل)، تمنحنا فرصة لاستعادة دورنا الإنساني في صناعة الحياة، حتى لا نبقى مستهلكين فقط، نبيع النفط ونأكل من دون أن نبدع ونطور أفكارنا ونسعى لتغيير حياتنا نحو الأفضل، لذا فإن مهمة الفرد والشعب وقادته هي أهمية توظيف فحوى المقولة المذكورة آنفا (نأكل لنعيش) بالصورة الصحيحة، وعلى الحكومة المركزية والحكومات المحلية وقادة النخب وقواعدها الجماهيرية كافة، نقل المجتمع من النمط الاستهلاكي المدمر، الى حقول الابتكار والإنتاج والتقدم والاستقرار، وهذا أمر ممكن جدا من خلال الإرادة والتخطيط العلمي واعتماد الكفاءات والخبرات لكي يتسنى لها إدامة عالم الابتكارات باعتبارها الإكسير الأعظم مفعول في جعل العراقيين في المقدمة دائما.

ذات صلة

استراتيجية وحدة المسلمين في مواجهة أعدائهمكاميلا هاريس خسارة الانتخابات أم خسارة القيم؟في تفسير ظاهرة تصادم النخب الثوريةحملة وطنية لمكافحة التصحّرالقطاع الخاص وحاجته للقوة الاكاديمية