ثقافة التعايش وقبول الاختلاف
علي حسين عبيد
2018-03-07 06:16
ثمة سؤال يتم تداوله بين العلماء المختصين بعلم الاجتماع، وتتم دراسة الأجوبة المتوقعة، السؤال كيف تُبنى المجتمعات المستقرة المرفّهة الراقية، وما هي الأسس والمسببات التي تقود إلى هذه النتيجة، وقد أكد المعنيون أو معظمهم أن التنوع المجتمعي يتطلّب طرازا قويا متماسكا من التعايش بين المكونات المختلفة للمجتمع، وما وصول المجتمعات المتقدمة اليوم إلى ما وصلت إليه إلا من خلال اعتماد مبدأ التعايش بين مكونات المجتمع الواحد.
ولا شك أن التعايش لا يمكن أن يُصنَع ذاتيا، أي أنه لا يصنع نفسه، بل هنالك عناصر وعوامل تشترك في صناعته أهمها مبدأ الاحترام، والرأي واحتواء الاختلاف، واعتباره عاملا مساعدا لتنمية الأواصر الاجتماعية وتطويرها، كما أن أهم مؤشرات النضوج المجتمعي، هو احترام الرأي الآخر، وحتى لو كان مختلفا قبول، مع أهمية التعامل معه بطريقة متمدنة، تدل على سعة البال والنفس والعقلية التي يحملها الانسان، و يزن بها الافكار والاشياء وانماط الحياة التي تختلف عن حياته وافكاره وقناعته، إذاً لا ينبغي لك أن تتواطأ مع الفكر المختلف، لكن لا يصح لك نسفه بأية حال، بل عليك قبوله والتعامل معه بحيادية من دون ان تعمل به، او تقبل فرضه عليك من لدن الطرف الاخر، مثلما لا يجوز لك اطلاقا ان تفرض رأيك على الاخرين، أو تحسبهم ممن لا تصلح آراءهم في أي مجال كان وتقصيهم خارج ساحة التفاعل المتبادل، وتعلن أن رأيك هو الأوحد وهو الذي يكمن فيه الصواب حصرا، لاغيا بذلك أي حضور وتفاعل ومشاركة للآخرين في إدارة شؤون المجتمع المختلفة، فهذا في الحقيقة نوع من عزل الآخرين وتهميشهم، والاستحواذ على صناعة القرار، وانتفاء العدالة، إذا ما ضعف أو غاب مبدأ التعايش بين مكونات المجتمع.
ومن الدلائل والمؤشرات التي تضع المجتمعات المتقدمة في الصدارة دائما، هو تطبيق هذا المبدأ عمليا، بالإضافة إلى أهمية أن يتفق المعنيون من مفكرين وسياسيين وغيرهم، على أن درجة التعايش بين مكونات المجتمع، هي المعيار الأكثر دقة على مدى تحضّر ذلك المجتمع، بمعنى أوضح، كلما كان المجتمع ومكوماته اكثر استعدادا للتعايش والانسجام والتقارب والتناغم، كلما كان المجتمع اكثر تطورا وتقدما واستقرارا واقترابا من كمال التحضّر، في العيش والتفكير والسلوك على نحو عام، لذلك تعد سمة التعايش من العوامل الحاسمة في تطوير المجتمع ونقله إلى ضفة العالم المتصدر، كون هذا المبدأ تمكن من توحيد المجتمعات، وجعلها أكثر استقرارا وتناغما، ومن ثم تصبح مجتمعات مستقرة ومنتجة، وذات اندفاع وتنامي متواصل نحو الانتماء إلى العالم المتمدن.
لهذا تبدأ المجتمعات الواعية في نشر ثقافة التعايش بين الاطفال اولا، صعودا الى الفئات العمرية الاخرى، ولكن هي تضمن اولا نشر هذه الثقافة بين الاطفال لكي ينمو الانسان وهو حاملا في تكوينه الفكري والسلوكي، ثقافة التعايش والاندماج في المجتمع، بغض النظر عن الاختلافات الفكرية والعرقية والدينية وما شابه، لهذا لا تتعرض مثل هذه المجتمعات الى اية ازمة او حالة من حالات التطرف، والتعصب والتكفير كما يحدث في بعض المجتمعات والدول الاسلامية، حيث يلجأ كثيرون الى تكفير الاخر، لمجرد الاختلاف في الرأي، او الفكر او الدين او الثقافة او العرق وما شابه.
وهكذا تخلصت كثير من الشعوب من حالات الاحتقان المجتمعي بسبب اختلاف المكونات من حيث طبيعة الانتماء، ولكن درجة تحضّر تلك المجتمعات وتمدنها، جعلها اكثر قدرة على الاندماج السريع، وفض الخلافات عن طريق القيمة الارقى من بين قيم التقدم ألا وهي قيمة التعايش التي تمحو حالات الصراع، وتحول حالات التعصب والتطرف الى حالات تناغم وتفاهم وانسجام، مما يخلق حالة من الاستقرار الدائم والقوي وهذا بدوره يشجع على الابداع وتنمية المواهب والقدرات الكامنة في دواخل الانسان، على العكس فيما لو كانت الاجواء محتقنة ومتشنجة بين مكونات المجتمع، اذ يؤدي هذا الى قتل المواهب وتبعثر الطاقات واندثارها، بسبب حالات الصراع والازمات المتلاحقة التي يعاني منها المجتمع الذي لا يؤمن بالتعايش ولا يعمق هذه القيمة الكبيرة.
أما الكيفية التي يتم من خلالها نشر مبدأ التعايش بين مكونات المجتمع ابتداءً من الاطفال، فإن الامر يتطلب جهدا وتخطيطا دقيقا وتنفيذا مخلصا من لدن الجهات المعنية، لاسيما الجانب الحكومي والجهات التعليمية التربوية المعنية، فضلا عن المؤسسات والمنظمات التي تُعنى بنشر قيم المحبة والسلام والتسامح بين اوساط الشعب كافة، ولا شك ان الدولة ينبغي لها ان تدعم هذا الاتجاه وتقديم التسهيلات اللازمة للجهات الفاعلة والناشطة في هذا المجال، اذ يتطلب الامر نوعا من الدعم الحكومي لاسيما المادي لإقامة النشاطات المختلفة كالندوات وعرض الاعمال الفنية في قاعات عرض جيدة ومناسبة، وإقامة دورات التدريب والترويج الفعلي لقيمة التعايش بين الاطفال وجميع الفئات لضمان انتشار هذا القيمة، لتصبح في آخر الطاف منهج سلوكي يومي معتاد من لدن الجميع، وليس حالة مظهرية شكلية يتداولها البعض من اجل التجميل الخارجي او لتمرير أهداف سياسية، أو تكون نتيجة لصفقة ما بين كبار الكتل والأحزاب، بل لابد أن يكون التعايش ثقافة يؤمن بها الجميع وأولهم القادة.
وتبعا لمقولة (الناس على دين ملوكهم)، فإن القائد له تأثير كبير على افراد المجتمع، لأنهم ينظرون إليه كنموذج لهم، ويتشبهون به في الفكر والمبادئ والسلوك والملبس، وكل مفاصل الحياة الأخرى، وهكذا ينبغي أن يعتني الجميع بنشر ثقافة التعايش، لأنها الوسيلة الأسرع والأنجع لاستقرار المجتمع، ولجعله قادرا على الإنتاج والإبداع المتواصل، والدخول في العالم المتحضر من خلال قيمة التعايش والتناغم المجتمعي، لهذا فإن تقييم مبدأ التعايش في تقوية الوشائج الرابطة بين مكونات المجتمع المختلفة، يأتي من قدرة التعايش على تذويب أكبر وأقوى المشكلات الفكرية أو العرقية أو سواها.