التسول والتشرّد بين العادة والتهميش
مروة حسن الجبوري
2015-03-04 06:55
في هذا الزمن الذي تفشى فيه الجهل، وانتشرت فيه البطالة، وتشعبت وتعددت فيه المشكلات، اعتدنا أن نرى في كل يوم حالة جديدة من التسول، خاصة أن هذه الظاهرة المزدوجة (تسول وتشرّد)، أخذ يتفنن اصحابها في عرض حالات العوز والعوق التي تواجههم، وقد استنسخ بعضهم طُرق وفنون التسوّل الحضارية، كما نراها في البلدان الأجنبية، مثل العزف على بعض الآلات، أو عمل بعض الألعاب البهلوانية او السحر، وبالتالي يتمكن هؤلاء المتسولون من الحصول على المال من الناس بهذه الطرق وسواها، حتى باتت أشبه بالمتاجرة او نوعا من المهن المحترفة القائمة على استدرار عواطف الناس، ويرى متخصصون أن الامر وصل من البشاعة بمكان، بحيث بات من غير الممكن التغاضي او السكوت على هذه الظاهرة، لا بحجة الدين ولا العقل، لأن وصول الظاهرة الى نزول الشابات في الشوارع، يتطّلب وضع حد لها بكل السبل المتاحة، مع أهمية مشاركة جميع الجهات المعنية، (الرسمية، والمدنية) في مكافحتها.
ومن المفارقات التي ترتبط بهذه الظاهرة، أن بعض ادباء الغرب والعرب اتخذ منها مادة لأعمالهم الادبية وشهرتهم، ومن بين الكتّاب الذين وظفوا التسوّل في مؤلّفاتهم، الكاتب الانكليزي تشارلر ديكنز الذي يعد من اوائل الكُتاب الذين بحثوا في حيثيات هذه الظاهرة، فكتب عنها بصدق واحساس عالٍ، ولفت الانتباه إليها في عام 1837م، عندما بدأ ديكنز بكتابة روايته التي يصور فيها الظروف الرهينة في الملاجئ والاصلاحيات وظروف اطفال الشوارع وقصصهم في لندن، فكانت ظاهرة التسول والتشرد سببا في شهرة الكاتب الانكليزي المذكور حتى يومنا هذا.
ويرى خبراء ان لجوء بعض الناس الى التسول لم يأتِ صدفةً، ولا بسبب ضغوط مجموعة من الظروف التي يدّعي جميع المتسولين بأنها أجبرتهم على استعطاء الناس، فأُجبرَ هؤلاء على التسول لكسب قوت يومهم!، بل كان ذلك نتيجة للتهميش الذي تعيشه فئات اجتماعية كثيرة.
وقد أخذ باحثون في الظواهر السلبية، على عاتقهم، متابعة واستقصاء مسببات ظاهرة الإستجداء، فوجدوا أنها تتجذّر في العمق، وأنها آخذة بالانتشار المتزايد مع وجود آفة الفقر في المجتمع، وانتعاش حالة الحرمان بين مكوناته، وهذا ما نراه اليوم في الدول العربية، لاسيما بعد ثورات الربيع العربي، وحالات النزوح والتهجير التي فاقمت من هذه الظاهرة، ولم تكتف بنزول الفتيات او النساء الى الشوارع، مع طرق عرض غريبة على مجتمعنا، بل لوحظ انتشار الأطفال بصورة لافتة في الشوارع ومفترقات الطرق (عند إشارات المرور الضوئية) وهم يتعاطون التسوّل بطرق تسيء الى كرامة الانسان.
ولعل من اهم الاسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة، ارتفاع معدلات المشاكل المختلفة في المجتمع، بفعل مضاعفة أعداد العائلات المشرّدة (هربا الى أماكن أكثر أمنا) بعد أن تحولت مدنهم، بل أحياؤهم السكنية وبيوتهم، الى مناطق مدججة بالموت، بسبب الربيع العربي، وحزمة الظواهر التي افرزها، ومنها ارتفاع نسبة الطلاق التي أحدثت طفرة في (تدمير) التنظيم الاسري، فهناك اعداد كبيرة من العوائل لا تجد من يصرف عليها او يعيلها ويقيها من خطر الجوع، فينزل افرادها الى الشوارع لاسيما الاطفال مع امهاتهم، بعد أن تركوا المدارس في عمر صغير، بسبب عدم التمكن من توفير المصاريف المدرسية، فوجدوا أنفسهم بمواجهة طريق الانحراف والتشرد وقتل اوقاتهم في المقاهي والتسكع في الطرقات، وهذا ما أدّى بدوره الى هدم البنى الاساسية في المجتمع، مع إهمال وانشغال للمسؤولين، عن هذه الظاهرة وأسبابها وسبل معالجتها، حتى باتت بمجملها من الظواهر المضادة للقوانين السارية.
وكشفت دراسة حديثة ان نحو ١٥٠٠ شخصا يمتهنون حرفة التسول في المغرب بصفة دائمة او مؤقتة، بسبب الفقر وتناولت دراسة ظاهرة اطفال الشوارع الذين تقل اعمارهم عن ١٢ سنة من خلال ثلاث فئات من الاشخاص، شملت الاولى اطفال تقل اعمارهم عن سبع سنوات، ويتسولون مع المراهقين، والفئة الثانية بين ثماني وعشر سنوات يتسولون دون مراقب ولا رقيب عليهم، والفئة الثالثة والاخيرة هم الكبار في السن، والحصيلة أن هناك 56% متسول من الذكور والاناث، و24% من الاطفال، وقد كشفت عن هذه الحصيلة مؤخرا رابطة حماية حقوق الاطفال، وهناك اشخاص يعملون في التسوّل عبر استئجار الاطفال لمزاولة نشاطهم وتصل نسبة التسول بهذه الطريقة الى 15%.
لذلك علينا ان ندرك أن أهمية متابعة هذه الظاهرة، لاسيما أنها بدأت تصبح ظاهرة مزدوجة تجمع بين التسول والتشرّد، وما على الجهات المعنية، رسمية وأهلية، سوى مكافحة هذه الظاهرة، قبل أن تتحول الى نمط حياتي مستدام، ويمكن أن يتم ذلك عبر طريقين، الاول في نشر الثقافة المضادة لهذه الظاهرة، والثاني في علاج جذور هذه الظاهرة وتوفير الفرص الحقيقية للفئات المهمشة.