الانتباه المسلوب
وقائع السرقة الأسوأ في زمان التكنولوجيا
الجزيرة
2023-06-27 07:19
بقلم: آية ممدوح
كان الصحفي والكاتب البريطاني "يوهان هاري" يجد صعوبة في إنهاء قراءة أحد الكتب أو مشاهدة فيلم كامل أو إتمام مهمة عمل بسيطة دون مقاطعة، كما نفعل جميعا اليوم ربما، كان يقفز بين الفيديوهات والمواقع المختلفة، ويقضي مزيدا من الوقت على مواقع التواصل بشكل قهري. بدأ يجرب حلولا لِمَا اعتقد أنه مشكلته الفردية، فوضع خطة لمقاطعة "السموم الرقمية" ليستعيد زمام الأمور مجددا.
بدأ "هاري" يلغي بعض التطبيقات أحيانا، ويقاطع هاتفه الذكي تماما أحيانا أخرى، وبينما هو يجلس دون هاتفه الذكي كان يلاحظ كيف ينغمس الناس حوله في متابعة هواتفهم متجاهلين كل ما حولهم، ومع الوقت، بدأ يدرك أكثر أن المشكلة التي كان يعاني منها لا تخصه وحده، لذا قرر خوض رحلته الطويلة في البحث عن أسباب ذلك "الانتباه المسلوب"، وهي الرحلة التي توَّجها بصدور كتابه الجديد الذي يحمل الاسم نفسه العام الماضي(1).
في عالم تبدو فيه كل مصادر المعرفة من كتب ومساقات وأفلام وثائقية متوفرة أكثر من أي وقت مضى، يبدو أن الناس باتوا عاجزين عن اكتساب تلك المعرفة أكثر من أي وقت مضى أيضا. غالبا ما كنا نميل لتفسير هذه الظاهرة بـ"قلة الإرادة" أو "خوار العزيمة"، لكن المشكلة أكبر من ذلك، لقد سُرق منا ببساطة العامل الرئيسي الذي لا غنى عنه لاكتساب أي نوع من المعرفة، ألا وهو "الانتباه".
عالم كامل لا ينتبه
في الدنمارك، كان "سوني ليمان"، أستاذ الرياضيات التطبيقية وعلوم الحاسوب في الجامعة التقنية، يلحظ هو أيضا تغييرا في قدرته على الانتباه، ويتساءل عما إذا كان الأمر يتعلق بتقدمه في العمر، لكنه اكتشف من خلال الأبحاث التي نشرها في مجلة "نيتشر كوميونيكيشنز (Nature Communications)" عام 2019 أن الأمر ليس فرديا بالمرة. يمكننا إدراك التغيرات الجماعية التي تطرأ على انتباهنا من خلال ملاحظة قصر المدة التي يستغرقها "اهتمامنا الجماعي" بأي حدث، وكيف بات انتباه الرأي العام يتقلب من حدث إلى حدث ومن قضية إلى قضية بشكل يصعب معه أن نولي حدثا ما الأهمية التي يستحق، وهو ما يشي بتناقص قدرتنا الفردية والجماعية على الانتباه.
درس "ليمان" عددا هائلا من التغريدات على موقع تويتر ليفهم ما يبدو عليه "اهتمامنا الجماعي"، وتوجه للوسوم الأكثر انتشارا ليقيس مدة تصدّرها، ليكتشف أنها كانت تبقى في المتوسط مدة 17.5 ساعة في عام 2013، قبل أن تتناقص المدة في عام 2016 لتصل إلى 11.9 ساعة، كانت الوسوم تصل إلى قائمة الوسوم الـ50 الأكثر انتشارا وتخرج منها بسرعة أكبر كلما تقدمنا في الزمن.
تعني هذه الملاحظة ببساطة أن كل موضوع بات يحظى باهتمام أقل في المجمل ليفرغ الساحة سريعا لموضوع آخر لن يحظى بما يكفي من الاهتمام أيضا، وهو ما أرجعته دراسات "ليمان" إلى "عامل الوفرة"، فمع زيادة المحتوى المتاح تظهر حاجة ملحّة للتوقف عن متابعة أي قضية، ببساطة لأن هناك قضية جديدة تظهر سريعا على الساحة. بعبارة أوضح، باتت الموضوعات المتنافسة أكبر من قدرتنا المحدودة على الاهتمام، وتناقص الوقت المتاح للفهم والتعمق، وصرنا أكثر ميلا للمتابعة السريعة والمشتتة(2).
لا تقتصر أسباب المشكلة على وفرة المحتوى المتاح فقط، إذ لا تسلم قدرتنا على الانتباه من المتربصين بها، فهناك شركات كبرى تجني أرباحها من جذب انتباهنا، ومن ثم فهي تكرس جهدها وتستخدم كل الأدوات الرقمية الممكنة لفعل هذا، إننا نواجه جيشا من وسائل الإعلام ووسائط الترفيه وشركات الإعلان التي تتنافس -ببساطة- على جذب انتباهنا.
هذا ما يعرفه الباحثون والمختصون اليوم باسم "اقتصاد الانتباه (Attention Economy)"، فيسبوك مثلا يجمع معلومات المستخدمين لاستخدامها لاحقا في استهداف كل منهم بالإعلانات والمحتوى الأمثل، والأمر ذاته تفعله جميع تطبيقات التواصل التي نقضي جل وقتنا في تصفحها ومتابعتها، فما حيلة فرد واحد أمام هذا الطوفان(3)؟!
تاريخ مبكر لفقدان الانتباه
بينما يطول الحديث عن دور التكنولوجيا والجنود المخصصين لـ"سرقة" انتباهنا في عالم اليوم، يكشف "يوهان هاري"، في كتابه "الانتباه المسلوب: لماذا لا يمكنك الانتباه؟ وكيف يمكنك التفكير بعمق من جديد؟ (Stolen Focus: Why You Can’t Pay Attention–and How to Think Deeply Again)"، أن مسيرة فقداننا للانتباه بدأت في وقت أبكر مما نعتقد، تحديدا منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومن ساعتها، أصبح كل عقد يمر على البشرية أسوأ من الذي يسبقه على هذا الصعيد.
يتحدث "هاري" عن أسباب كثيرة أسهمت في هذه الظاهرة، من بينها تغير أنواع الطعام وتلوث الهواء وتصميم المباني والمكاتب وساعات النوم التي قلّت بنسبة تبلغ نحو 20% عن القرن الماضي فضلا عن زيادة ساعات العمل والتنافسية الشديدة فيه(4).
يعد الغذاء تحديدا أحد العوامل المهمة في هذا السياق، فقد أصبح غذاؤنا يتضمن كميات أكبر من السكر الذي ترتفع نسبته في الدم مباشرة بعد الوجبة لنشعر بالطاقة تملؤنا، لكنها سرعان ما تنخفض لتقل قدرتنا على التركيز، وهكذا نحتاج إلى دفعات من الوجبات المليئة بالسكر، هنا يظهر دور صناعات الأغذية التي تحاصرنا بالإعلانات، فيكون الغذاء غير الصحي في أحيان كثيرة هو خيارنا الأول، رغم ما يحمله من تأثيرات على قدرات أدمغتنا(5)(6).
لا تعتبر التكنولوجيا السبب الوحيد إذن، لكنها بالتأكيد المتهم الأكبر في تناقص انتباهنا، إنها مصدر لا يستهان به للأخبار المتواصلة، تتحد قدرة الخوارزميات في مواقع التواصل مع التحيز السلبي (الميل إلى الأخبار السلبية التي تثير الغضب أو الحزن) الموجود في طبيعة البشر، لتزودنا بالمزيد من الأخبار المثيرة للغضب والخوف وغيرها من المشاعر السلبية، وتكون النتيجة أننا نصبح أقل اطّلاعا على القضايا المهمة، فتزيد مشكلاتنا الاجتماعية، ويحيط بنا فقط ما يخيفنا ويثير الغضب لدينا، وهكذا تُضرَب قدرتنا على الانتباه في مقتل(7).
كما زاد توفر التكنولوجيا من رغبتنا في القيام بعدة مهام في الوقت نفسه، تناور عقولنا في وجود التكنولوجيا بشكل مستمر بين متابعة البريد الإلكتروني والرد على رسالة واتسآب ومتابعة إشعارات فيسبوك. إنه "تعدد المهام" الذي حاولوا إقناعنا أنه علامة على تطورنا، لكنه في الحقيقة فخ يسقط في شِرَاكه انتباهُنا وتركيزنا، كما يخبرنا علماء الأعصاب اليوم.
الثمن الحقيقي لتعدد المهام
وفق "إيرل ميلر"، عالم الأعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإن دماغنا لا يملك في الحقيقة تلك القدرة على القيام بأكثر من عمل في الآن نفسه، في إنجاز المهام يستخدم دماغنا ما يُعرف بـ"الذاكرة العاملة"، وهو المصطلح الذي صاغه علماء النفس الإدراكي عام 1960 لشرح البنية الأساسية لعملية التفكير. يمكنك تبين طريقة عمل الذاكرة العاملة من خلال محاولة الاحتفاظ برقم هاتف في دماغك ريثما تسجله، ومحاولة القيام بأي مهمة في الوقت نفسه، ولاحظ تراجع أدائك، وكيف أن جزءا من دماغك (وهو هنا جزء من الذاكرة العاملة) مشغول بحيث لا يمكنك أداء مهامك على الوجه الأمثل.
لدى دماغنا قدرة محدودة على التفكير المتزامن، بينما نعتقد أننا نتابع فيلما وثائقيا ونكتب رسالة سريعة عبر الهاتف، تخدعنا عقولنا بذلك الشعور بأننا نقوم بالأمرين معا بنجاح، فيما نحن في الحقيقة نستهلك وقتا وجهدا في سلسلة من التحولات المعرفية الصغيرة التي يتطلبها التبديل بين المهام، إننا لا نقوم بالأمرين معا في الحقيقة، إننا نبدل بينهما، ونتعثر بين الحين والحين لنتمكن من معاودة التركيز في كل مهمة، وندفع ثمن ذلك كله من طاقتنا الذهنية، كما نصير أبطأ في العموم ونرتكب أخطاء أكثر.
هذا هو ما يجعلك ببساطة تخفض صوت المذياع في السيارة لتتمكن من التركيز في القيادة في طريق مزدحم، قدرات الدماغ محدودة إذن، والتبديل بين المهام يستهلك مزيدا من الطاقة للعودة إلى حالة التدفق، بحيث لا نجني من هذه المحاولة للقيام بعدة أشياء في الوقت نفسه إلا تراجعا في الإنتاجية.
الآن يمكنك أن تدرك لماذا أصبح ذهنك لا يكاد يصفو للتفكير الإبداعي الذي يعتبر ثمرة تركيز ممتد لا يمكن بدونه متابعة الروابط بين الأفكار، يشغلنا تعدد المهام بالتبديل المستمر بحيث لا نستغرق الوقت الكافي لتتبع فكرة عميقة، وهكذا تقل جودة أدائنا ونصبح أقل إبداعا وأكثر سطحية(8).
إدارة الانتباه
في كتابها "إدارة الانتباه: كيفية تحقيق النجاح واكتساب الإنتاجية (Attention Management: How to Create Success and Gain Productivity)"، توصي "مورا توماس" بالتركيز على إدارة الانتباه، بدلا من التركيز على إدارة الوقت، وتشرح الحالات الأربع التي يكون عليها دماغنا في الأوقات المختلفة. أولى هذه الحالات هي حالة "رد الفعل وتشتت الانتباه"، وهي الحالة التي نكون عليها في الأوقات العادية خلال وجودنا بالمنزل مثلا، فيكون انتباهنا مشتتا بين المثيرات المحيطة، ربما الرد على الهاتف أو متابعة الإشعارات أو الاستماع لحديث أحدهم، تتقاذفنا الملهيات في هذه الحالة ولا تكون لدينا السيطرة.
أما الحالة الثانية فهي "التركيز واليقظة" التي نكون عليها عند محاولة إنجاز مهمة ما في العمل مثلا، فنهيئ الأجواء ونبتعد عن المشتتات، لكننا خلال هذه الحالة ندخل في حالة مستمرة من المقاومة لكي نحافظ على تركيزنا، ونبذل جهدا في الابتعاد عن المشتتات المختلفة.
الحالة الثالثة هي التي تنتابنا عادة في أوقات الانتظار والأوقات المستقطعة، ويطلق عليها حالة "أحلام اليقظة وشرود الذهن"، حين تتجول عقولنا بحرّية بين الأفكار والعوالم والأزمنة، لا يبدو أننا ننتج شيئا حينها، لكن لتلك اللحظات الهادئة أهميتها في إمدادنا بأفكار ثرية ومبدعة أحيانا.
وأخيرا تأتي الحالة الرابعة التي تتوج الحالات الثلاث، وهي "التدفق" الذي يعد الحالة الذهنية المثالية للإنتاج. عند تلك الحالة، نستغرق تماما في العمل الذي نقوم به، وننسى أمورا مثل الشعور بالجوع أو البرد ونحو ذلك، تكون كل طاقاتنا موجهة نحو العمل.
تخبرنا "توماس" أن دورنا الرئيسي هو تمييز كل حالة من حالات عقولنا، لاستغلالها على النحو الأمثل، وهذا تحديدا ما تعنيه بـ"إدارة الانتباه"، وأكثر ما يمكننا السيطرة عليه هو البيئة المحيطة والتكنولوجيا. بشكل رئيسي، تنصحنا "توماس" بإغلاق البريد الإلكتروني أو ضبط الهاتف على وضع الطيران أو وضع الهاتف بعيدا، تخفيف قدر المشتتات حولنا يزيد قدرتنا على الانتباه، وهي قدرة تتنامى تدريجيا(9).
بشكل مماثل، يلفت "يوهان هاري" في كتابه إلى أننا مع اعتياد المكافآت السريعة التي تمنحها لنا الإشعارات والإعجابات والأخبار، يكون الصخب أكثر ما يميز عالمنا، ونشعر عند فقدانه بصمت لم نألفه، ساعتها سيكون علينا شغل الفراغ الذي يخلفه الصمت، سواء بالكتابة أو ممارسة الرياضة أو الانغماس في عمل أو هواية، الاستغراق في التركيز عند ممارسة هواية أو محاولة تحقيق هدف، ودفع حدود قدراتنا بمزيد من التحديات، كفيل بأن يملأ الفراغ الذي يخلفه التخلي عن نمط حياتنا الحالي الذي يدمر انتباهنا(10).
أما عن البيئة المحيطة فإننا بحاجة إلى وضع حدود للمحيطين بنا، في المنزل أو في أماكن العمل، لكي لا نكون عرضة للمقاطعات، قد يكون ذلك بوضع سماعات أو لافتة، لتكون إشارة إلى عدم رغبتنا في الحديث الآن أو المقاطعة. ساعتها، يمكن القول بأننا الآن مستعدون للدخول في حالة "التركيز واليقظة"، وستكون المكافأة التي تلي ذلك هي الدخول في حالة "التدفق" التي لا نختار الدخول إليها لكنها تكون ثمرة جيدة لمحاولات الانتباه المتتالية(11).
المشكلة هي أن ذلك كله ربما لا يكون كافيا، يشير "يوهان هاري" في كتاب "الانتباه المسلوب" إلى أن التغييرات الجماعية، وعلى الرغم من أهمية التغييرات في نمط الحياة الفردي، هي الأكثر فعالية للحفاظ على انتباهنا. يسوق "هاري" مثالا حدث عام 2018 في فرنسا حين كثر الحديث عن الإرهاق في العمل، ونجحت ضغوط النقابات في فرض غرامات تقدر بآلاف اليوروهات على الشركات التي تخالف قانون الالتزام بساعات عمل محددة، وتفرض على العاملين بها الرد على الهاتف مثلا في غير أوقات العمل، كان تغيير مجتمعي بهذا الحجم قادرا على الحد من المنافسة بين العاملين والشركات، حيث اختصر الكثير من الجهود الفردية للحفاظ على نمط حياة أكثر هدوءا(12).