عودة الوعي: قراءة متأخرة

عبد الامير المجر

2018-06-24 07:22

انتهيت قبل ايام من قراءة كتاب (عودة الوعي) للكاتب الكبير توفيق الحكيم .. الكتاب قرات عنه كثيرا من قبل، الاّ ان قراءتي له جعلتني اقف على رؤية هذا المثقف الكبير لمرحلة مهمة من تاريخ مصر، الا وهي ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 التي كان الحكيم من اكبر مؤيديها، ومبرري اخطاءها ايضا! وهو ما يعترف به وبصراحة، قلّما نجدها عند كاتب اخر، قبل ان يعيد النظر بمواقفه السابقة.. لقد بيّن في هذا الكتاب موقفه من مرحلة الملك فاروق وتذمره وتذمر غالبية المصريين منها، وتطلعهم الى حياة جديدة، وها هي قد اتت على ايدي ضباط شباب، وحققت للشعب المصري في ظرف زمني قصير ما عجز عن تحقيقه نظام الحكم السابق في عقود. لكن الحكيم يستعيد محطات مهمة من تاريخ الثورة وقائدها جمال عبدالناصر، وينقدها بعين المراقب الذي قرأ النتائج في ضوء مقدماتها، اذ يخلص الى ان عبدالناصر كان رجل سلام، لكنه لم يعرف الطريق الصحيحة اليه، وكان وطنيا، لكنه لم يبن دولة المؤسسات المطلوبة، فوقع في فخ حماسته الثورية والاجتهادات التي دفعت بالبلاد الى كوارث، كان من الممكن تجنبها، او هذا ما اراد قوله .. فبدءا من العدوان الثلاثي في العام 1956 الى حرب اليمن مطلع الستينيات وصولا الى نكسة حزيران 1967، يجد الحكيم ان عبدالناصر لم يقرا خارطة التوازنات في العالم، بسبب قلة خبرته وخبرة القيادة بشكل عام.. ثم يعرج على الممارسات السلبية التي رافقت الثورة على مستوى ادارة الدولة، اذ يبدو مقنعا في تشخيصه للاخطاء وكيف ان الحماسة كانت لا تسيطر على القيادة فقط، بل حتى على المثقفين وعموم الشعب، ولم يستثن نفسه من تلك الحماسة، قبل ان يكتشف انه وقع تحت ضغط عواطفه وتاييده المطلق للثورة وثقته الكبيرة بقيادتها.

الحكيم كان اخلاقيا في احكامه، اكثر مما كان قارئا للسياسة في احتداماتها المختلفة داخليا وخارجيا. فالرجل ليس باحثا في السياسة ولم يدّع ذلك، ولهذا اختلف مع محمد حسنين هيكل فيما بعد، او بعد ظهور كتابه هذا، الذي يقول انه تسرّب الى الصحافة بطريقة ما، على اجزاء، قبل نشره في كتاب، خلافا لرغبته!

قراءتنا المتاخرة للكتاب الذي صدر قبل نحو خمسة عقود، وقراءتنا للاحداث بشكل عام، تدعونا للقول، ان الوعي لم يكن غائبا في مصر الناصرية وحدها، بل في اغلب دول العالم، بما فيها المتقدمة حضاريا، والاّ كيف نفسر اندلاع الحربين العالميتين، والخراب الشامل الذي اصاب البشرية من جرائهما، قبل ان (يعود الوعي) لشعوب وقادة تلك الدول معا؟! بمعنى ان تلك المرحلة المحتدمة من تاريخ العالم، كانت تتحمل هذه الحماسة، سياسيا وعقائديا، وان عبدالناصر لم يكن خارج هذا المناخ. ومن خلال اطلاعنا المتواضع على جوانب من تاريخ العالم السياسي، وقفنا على قرارات كبرى وصغرى، هي اقرب الى الجنون منها الى العقل في ادنى مستوياته، فالحروب والصراعات التي سادت العالم في حقبة الخمسينيات، والتي كانت بمثابة هزات ارتدادية لمرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية، تجعلنا نعذر عبدالناصر على حماسته، لانه عاش في عالم ملتهب سياسيا وثقافيا ايضا! وهو ما لم يشر اليه توفيق الحكيم او يعالجه في قراءته الاخلاقية الراقية تلك، فهو اكتشف (غياب الوعي) في سبعينيات القرن العشرين، او بعد ان نزفت السياسة العالمية حمولتها الحماسية واستفرغت الصدور قيحها المتراكم منذ قرون، ووقفت الانسانية كلها، تقريبا، تتامل بوجوه بعضها البعض، وتعيد قراءة ماحصل لتبدا مرحلة الترميم الشامل، ولو بمستويات متفاوتة، ووفقا لظروف كل دولة وطبيعة مشاكلها. ولو ان عبدالناصر عاش مرحلة السبعينيات لربما كان تعامله مع الاحداث بشكل مختلف، وهكذا.. فتوفيق الحكيم، وهو المثقف الكبير وجد نفسه متحمسا للثورة ومنساقا وراء اجراءاتها التي رآها فيما بعد خاطئة، فكيف يكون الامر مع ثائر شاب، كان يعمل على صناعة حلم جديد لشعبه الرازح تحت نير التخلف والفقر، وسط عالم شائك وقوى خبيثة متربصة .. اشير هنا الى مسالة قناة السويس، التي اممها عبدالناصر قبل موعد تسليمها لمصر باحد عشر عاما، والحرب التي شنت على مصر بسبب ذلك، وهو ما يشير اليه توفيق الحكيم، ولو ضمنا، بصفته قرارا خاطئا، اذ كان يمكن اعادة السؤال بطريقة اخرى. اذا كان على موعد تسليمها من قبل الدول المؤجرة بهذا القرب، مع دفع مستحقات الشركات من قبل مصر، فهل يستحق الامر عدوانا بهذا الحجم على شعب يريد ان يأكل الخبز من احد موارده المسروقة؟!

لاشك ان تجربة سياسية بحجم ثورة يوليو، جاءت في تلك الحقبة الزمنية الملتهبة من تاريخ العالم، حيث الحرب الباردة واسقاطاتها الحادة، وموقع مصر واهميتها، لابد لها من ان تتخللها اخطاء كبيرة، فالمطبات التي وضعت في طريقها كثيرة جدا، والصراعات الدولية تجد لها صدى مباشرا في الميدان المصري، وغيره من الميادين التي انطلقت منها صرخات الحرية والانعتاق، لاسيما ان الحرب العالمية الثانية، بصفتها هزة كونية غير مسبوقة، اثمرت هذا الحراك الكوني المتمثل باقامة نظم حكم جديدة، وجدت نفسها في دائرة الاستقطاب الحاد السياسي والعقائدي، وقتذاك .. الحكيم لم يقل انه سياسي، بل اكد اكثر من مرة انه مواطن قبل كل شيء، وانه مثقف مسؤول، كان شاهدا غير عادي على مرحلته، وان واجبه الاخلاقي فرض عليه تدوين ملاحظاته ومن ثم موقفه النهائي مما جرى لبلده .

كتاب توفيق الحكيم هذا يجب ان تعاد قراءته باستمرار، لانه يعكس رؤية مسؤولين ورايهم في امور حساسة كثيرة، وانه مدخل لحوار جاد، كان الحكيم نفسه قد اكد عليه في نهاية كتابه، حين طلب من المؤرخين ان يدونوا تلك الحقبة العاصفة من تاريخ مصر، بعيدا عن أي انفعال او خلفية جهوية، تحيد عن الموضوعية، لكي تطلع الاجيال على تاريخ بلدها بعدّة سليمة، تجعلها تنظر الى المستقبل بعين صافية وفضاء خال من أي غبار.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي