سؤر الفخر
زهراء وحيدي
2016-10-19 05:03
بينما كانت تجلس عند قبره تتلو آيات العشق الإلهي، كإقحوانة خجلة مسحت آخر دمعة من وجنتها... ونطقت: ها هو وليدنا يا قرة عيني، أتيت به كما وعدتك وكما طلبت مني سميته المنتظر، غاصت في الفراغ، وهي تستذكر آخر رسالة وصلت من حسين زوجها وحبيب فؤادها:
عزيزتي فاطمة... تلبية لنداء المرجعية في ساحات العشق أحارب، وبسلاحي أصون عرض الوطن، فهيهات من الذلة، وهيهات من أي شخص يحاول أن يدنس شرف الدين.
إن لم أرجع فلا تبكي علي، ولا تشقي جيبا، تحلي بالصبر وادعِ لي بالرحمة والمغفرة، فأنتِ ستكونين زوجة الشهيد، حبيب الله، و إن أقبل طفلنا وأنا بين يدي الله، سميه المنتظر ليأخذ بثأري وثأر الدين وأبناء الوطن!، زوجك المخلص حسين.
تذكرت فاطمة كلماته، خرجت من أعماق روحها تنهيدة صبر، أشلَّ فيها أطراف الحزن الأربعة. غلبها الفخر... لملمت بقايا ذاكرتها وحملت طفلها وغادرت المقبرة، والشموخ يتساقط من سواد عباءتها وهي تردد: نعم ..أنا زوجة البطل حسين محمد علي.
يعد حسين محمد من أبرز الضباط وأمهرهم في فك القنابل والمتفجرات الحربية، والذي ينتمي إلى لواء علي الأكبر_وهو أحد المنظمات الحربية التابعة إلى العتبة الحسينية المقدسة المختصة في الدفاع عن العراق ومقدسات الوطن_.
يعيش هو وزوجته فاطمة في بيت صغير في أحدى ضواحي مدينة كربلاء، صنعت فاطمة من بيتها الصغير جنة مشتهاة، يعد حسين الساعات بلهفة حتى يكمل عملة ويعود إلى جنته الصغرى والى أميرته فاطمة.
بعد سوء أحوال العراق وتدهور الوضع الأمني، لبى نداء المرجعية والتحق إلى لواء علي الأكبر لتلبية الواجب الديني و الإنساني، ترك زوجته تحت جناح رحمة الله وأوصى عليها أخيه الأكبر وهي تحمل في جوفها جنينا بقي علية سبعة أشهر ليبصر نور الحياة.
كل يوم تفرش فاطمة سجادة الغرام في سطح بيتها، تراقب غروب الشمس وتسمع صوت الأذان الذي يحرك الهواء من حولها فيطمئن قلبها وهي تصغي إلى مناجاة الحب الإلهي وتذرف دمع الحنين على وجنة الأمل، وتؤمن بأن بعد كل غروب... شروق جديد.
في صباح يوم الخامس من جمادي الأولى بعث حسين من موقعه أكثر من خمسمئة مقاتل إلى جبال مكحول كإمداد للقوات المقاتلة هناك، إذ إن وصول الإمداد من كربلاء وبغداد سيستغرق وقتا أطول وسيجعل الوضع أصعب وأخطر عليهم.
وأخبر حسين العقيد فاضل بأنه سيبعث قواته إلى جبال مكحول وسيبقى هو وبعض زملاءه في موقعهم لاستقبال المقاتلين الجدد ومن ثم الانطلاق إلى جبال مكحول حيث المواجهة الحاسمة بين داعش وأبطال الحشد الشعبي والجيش الباسل.
حل الليل... مد الظلام بأطرافه في أحشاء السماء. كان حسين كعادته من كل ليلة يختلي بنفسه ويرتل زيارة الغرام_زيارة عاشوراء_ التي تمده بطاقة إيجابية غريبة يستمد منها الصبر والقوة وهو يتذكر بطولة قمر بني هاشم أبا لفضل العباس ووفائه لأخيه، وعظمة إمام الحسين (عليه السلام) في تحمل المصيبة وأولاده يقتلون أمام عينه، واحدا تلو الأخر، وصبر السيدة زينب (عليها السلام) عندما سألها الملعون يزيد ماذا رأيت في صنع الله؟، فردت عليه ما رأيت إلا جميلا. يذرف الدمع ليطهر قلبه من شوائب الدنيا وملذاتها، وفجأة يسمع أزيز الرصاص يخترق سكون الليل ليتجه إليه صديقه جاسم مهرولاً يصرخ:
قم يا حسين نحن نتعرض الى هجوم.
أنتفض حسين وقام مسرعا ليحمل سلاحه و يطلب من الجميع أخذ مواقعهم خلف السواتر، لقد علم داعش بإرسال القوات إلى مكحول فأنتهز الفرصة وقام بالهجوم على المقر.
لقد كان أعداد داعش تفوق أعدادهم... حاصروهم من أربعة جهات لقد كان يصرخ جاسم:
ــ ماذا نفعل يا حسين؟ لا نجاة لنا منهم فقد حاصرونا من أربعة جهات وأعدادهم تفوق أعدادنا.
يرد عليه حسين بكلمة: "يا زهراء".
فيشعر جاسم بأن صوت حسين عرج إلى السماء ومزق أذن الليل، لقد كان جواب حسين كافي ليجعل جاسم يقاوم العدو ببسالة إلى آخر نفس، وهو يرى زملائه يسقطون أرضا واحدا تلو الأخر فيردد بين نفسه... أما الموت أوالشهادة، وفي تلك اللحظة رصاصة خائنة تتجه نحو جاسم، وتتربع في منتصف صدره.
وعندما راه حسين في تلك الحالة زلزل جسده، أتجه نحو صديقه جاسم وضع رأسه في حضنه، أخرسه هول الموقف... صديق عمرهِ يحتضر بين يديه!، نطق الشهادة وفاضت روحه. صرخ حسين... يا مهدي أغثنا. أغلق عيني صديقه عن الدنيا، ليبصر الجنة في الآخرة وهو يتمتم، لا تقلق يا صديقي.. سيستقبلك قسيم الجنة والنار.
نزع حسين وشاحه الأخضر ووضعه تحت رأس جاسم، ودعه وذرف دمعة الفراق، وأتجه نحو ساتره وعينيه تعلقت بالابتسامة التي أزهرت على وجه الشهيد جاسم، هذا المنظر زاد من معنويات حسين وجعله يشتهي الشهادة و يتلوع حنينا للالتحاق به.
ينظر حسين يمينا ويسارا ولا يرى سوى جثث زملاءه وعدد لا يزيد عن عشرون شخصا لا يزالون يقاومون العدو ببسالة، مرت ربع ساعة على نفس الحالة، أستغرب العدو من شدة مقاومة الطرف، نطق أبو عثمان_أحد القادة في منظمة داعش الإرهابية_:
هل انتم متأكدين بأن أعدادهم لا تزيد عن ثلاثون شخص؟!.
أجابه أحد المجندين:
نعم سيدي نحن متأكدين من ذلك، فقد قاموا في هذا الصباح بإرسال إمداد يزيد عن خمسمئة شخص إلى جبال مكحول.
إذا كيف ذلك؟ ما هذه العزيمة التي لديهم في مقاومتنا ونحن أضعاف أضعافهم!، أرموا عليهم غاز مسيل للدموع فقد انتهى صبري، تم سيدي.
وبعد لحظات لم يشعر حسين إلا وبدأت عيناه تحترقان ألما وكأن دخل فيهما التيزاب. بدأت دموعه تتساقط وأنطفأ النور عن بصره. علم بغدر العدو، فداعش لا دين ولا شرف له على المواجهة، كأجدادهم يزيد ومعاوية من نفس الصلب هم، حاول أن يقاوم ولكن خذلته عيناه. توقف صوت العتاد... ساد الصمت قليلا، حينها سمع حسين صوت أرجل تقترب منه، إنه أبو عثمان وأعوانه يقول:
ــ سحقا لك.... ألا زلت تريد أن تقاوم؟
أحدهم قاطع أبو عثمان:
ــ هل نقتله يا سيدي؟.
ــ كم مره قلت لك لا تقاطعني ها؟ ستجلد مئة مرة على فعلتك هذه.
ــ أعتذر سيدي لن أعيدها مرة أخرى.
ــ ستجلد مئة أخرى على إلحاحك هذا.
ــ عفوا سيدي.
ــ اقتلوا الجميع وأجلبوا هذا الضابط الحقير... سنأخذه أسيرا معنا.
دخل حسين في غيبوبة.. ولم يستيقظ منها إلا على صفعة أحدهم.
ــ هيا استيقظ.
تذكر حسين ما حصل قبل غيبوبته، لا تزال عيناه ثقيلتان، حاول أن يفتحها بصعوبة
الحمد لله أنه يرى بغشاوة بسيطة.
كان أمامه شخص يرتدي ثوبا اسود ينتهي تحت ركبتيه مع بنطال عريض وشعر كثيف ولحية طويلة تفوح منه رائحة نتنة. علم حسين بأنه في قبضة داعش... بعد ثواني حضر أبوعثمان ومعه سوط طويل، ها يا ضابط حسين؟ سمعت بأنك خبير بفك المتفجرات والقنابل؟، إذا أنت الذي كنت تنزع عملياتنا وتفك العبوات الناسفة؟، أنت الذي كنت تدمر مخططاتنا؟ لن أرحمك أبدا إلا في حالة واحده... رد علية حسين بابتسامة ساخرة:
ــ وما هي؟.
ــ أن تنظم إلى الدولة الإسلامية وتخدم الإسلام هنا وتساعدنا في تصميم العبوات والقنابل ونحن سنكافئك بأموال و كل ما تريد من جاه، رد حسين بعنف:
ــ هيهات...
ــ لا تكن عنيدا يا ضابط حسين فنحن هنا لنصلح أهل الأرض.
ضحك حسين بطريقة هستيرية ثم سكت لبرهة وقال:
ــ بسم الله الرحمن الرحيم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (
جن جنون أبو عثمان وصفع حسين بكل ما أوتي من قوة. كأن هذه الآية زلزلت كيانه، خرج من الغرفة وبات يتمتم مع نفسه كيف لهذا الانسان أن يتحلى بكل هذه الشجاعة ؟! من أين له كل هذه القوة و الإيمان!، ثم عاد إلى الغرفة وهو يزفر غيضا.
ــ لن أدعك تموت هكذا... سأجعلك تتعذب إلى آخر لحظه من لحظات حياتك..
و أمر أحد المجندين بأن يعذبوه بأنواع العذاب وأقساه، وبالفعل هذا ما حدث... عذبوه بشتى انواع الطرق و أقساها، ولكن رغم شدة السوط الذي كان يخترق عظامه، وغلظة الأسلاك التي تغوص فيه لتصل بآلامها إلى أعماق نفسه كان يتجرع كأس الوجع بتراتيله ومناجاته لله وبتوسلاته بأحب خلقه، الذين ضحوا بأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الحق.
كان يحترق أبو عثمان وهو يشاهد حسين مقاوما، يهمس بين نفسه :يا ترى من أي شيء خلق هذا البشر! من أين جاء بكل هذا الإيمان و الصبر!. نفذ صبر أبو عثمان، أخرج سلاحه ووجه نحو رأس حسين وقال:
ــ ألا تريد أن تعيش؟
رد عليه حسين وهو يحاول أن يخرج كتلة الدم من فمه:
ــ و هل جننت لآثر حياة الذل والخوان والزوال بنعيم العزة و البقاء! إما فوق الأرض أعزاء أو تحت التراب شهداء.
أزداد غيضا أبو عثمان و صرخ سأقتلك يا حيوان، وجه السلاح على حسين وأفرغ العتاد عليه... وكأنه ينفض غضبه على عدد العتاد الذي يخترق جسد حسين. مرت الذكريات كهبوب النسيم على ذاكرة حسين... زوجته، أمه، كربلاء، حرم الإمام الحسين وقبته الطاهرة وطفلة الذي لم يأتِ بعد. تمتم الشهادتين وسمت روحه إلى عالم الأزل والخلود.
غادر الحياة... بهيمنة العشق الإلهي، بعزة ولادة طف جديد كانتصار الدم على السيف، نعم...إنه التاريخ يعيد نفسه من جديد.
وصل خبر استشهاد حسين إلى أهله، فانهار الجميع بعد سماع الخبر، أخذت أخت حسين تلطم على رأسها، وأمه أنتابها الذهول فاتكأت على جدار المنزل وهي توقد حنين ذاكرتها للحظة وداع ثمرة فؤادها قبل الالتحاق، حينما انحنى ليقبل قدم جنته فرفعته أناملها الحانية وهي تقول: لا يا بني أنا التي يجب أن تقبل هذين القدمين فقد أصبحت أنت أقرب للجنة مني.عادت الى وعيها ورفعت رأسها قائلة.. نعم والله ها أنت نلتها قبلي.
أما فاطمة فأنتابها السكون و لم يبدر منها أي شيء سوى دمعة اشتياق لحبيب قلبها حسين، استغرب الجميع من برود فاطمة، اقتربت منها أختها وقالت :
ــ ألن تبكي ... ألن تلطمي؟، انه زوجك! لقد مات.
بابتسامة ساحرة وبعين تلمع حبا ردت فاطمة:
ــ لم يمت كما تظنون... بل ولد في حضن ربه، نعم إنه حي.. فشعاع ضياؤه يرفدني الأمل، أقولها بمليء فؤاد سؤره الفخـر_ ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياءُ عند ربهم يرزقون_ أنا... أنا هي زوجة البطل الشهيد "حسين محمد علي".