محرقةُ الأطفال الخدج في بغداد
لطيف عبد سالم العكَيلي
2016-09-03 07:24
مِن نافلةِ القول إنَّ التَّخْطِيطَ الجيد يساهم بفاعليةٍ فِي تعزيزِ فرص النُمُوّ المِهْنيّ، وَالَّذِي يُعَد أحد المرتكزات الرئيسة الَّتِي تفرضها مُهِمّةِ تطوير أَدَاء الإدارة وتحسين قدراتها. إذ يتعذر عَلَى القياداتِ الإداريّة التيقن مِن إمكانيةِ تحقيق الإدارةِ بمختلفِ القطاعات لأهدافِها بشكلٍ فعال فِي ظلِ حتمية إخفاقها بتنميةِ القدرات المِهْنية المتأتي مِن ركونِها إلى العَشوائيةِ فِي مجالِ التَّخْطِيط.
مِن البديهي أَنْ تنعكسَ اختلالات التَّخْطِيط الَّذِي يُعَد وسيلة فعالة فِي تحقيقِ الرَّقابة بآثارٍ سلبية عَلَى عمومِ المنظومةِ الإداريّة، ولاسيَّما المعنية بمَوْضُوعِ الخدمات البَلَديَّة وَالاجْتِماعِيَّة، والَّتِي تستوجب أَنْ تكون مفاصلها قادرة عَلَى الارتقاءِ بالخدماتِ الَّتِي تؤدِّيها إلى ما يشبع حاجات الناس بشكلٍ دائم، بخلافِ ما هو حاصل فِي أغلبِ قطاعاتِ بلادنا، ولاسيَّما الميدان الصِّحي الَّذِي تراجعت فِيه كَفاءَة الأَدَاء بالمدةِ الماضية إلى مستوياتٍ متدنية، حيث أصبحتْ بعض مَشافي البلاد ملاذاً آمناً للقططِ والكلاب السائبة، والَّتِي اعتادت عَلَى التجولِ بحريةٍ تامة فِي أروقتِها وحواليها، فضلاً عن تحولِها إلى بيئةٍ ملائمة لانتشارِ الجُرْذَان بفعلِ تكدس النُفَايات الَّتِي تعكس انحسارِ أنْشِطَة الاقسام المعنية بخدمةِ النَظافة، الأمر الَّذِي حفز أصحاب الْمَوَاشِي عَلَى الرعي بأمانٍ قرب المُسْتشفيات ومراكز الرِّعايَةُ الصِّحية الأَوَّليَّة بعد أَنْ كانت المدارس والأزقة ملاذاً رئيساً لنَشَاطاتِهم.
يضافُ إلى ما تقدم ذكره آنفاً معاناة بعضِ المَشافي مِن مُشْكِلةِ نقص الأَدْوِيَةٌ وافتقارها إلى بعضِ المعدات الطِّبِّيَّة الضرورية كما هو الحال فِي لجوءِ أقسام الأَشِعَّةٌ إلى خيارِ الاستعانة بكاميرا الهاتف النقال لغرضِ توثيق حالات الإصابة جراء عدم تيسر الأفلام، إلى جانبِ تكفلِ ذوي المرضى بمُهِمّةِ تأمين بعض المستلزمات مثل شراء خيوط العَمَلِيَّة الجِرَاحِيَّة مِنْ صَّيْدَلِيَّةٍ أهلية!!.
إنَّ حياةَ الإِنْسَان تقضي بإلزامِ الإدارة الصِحِّيَّة الحرص عَلَى تقديمِ خدمات متقدمة ورعاية جيدة للمرضى بالاستنادِ إلى معاييرِ الجُودَة والعدالة، الأمر الَذي يتطلب قُدْرَة عَالِيَة عَلَى العَمَلِ وَمتابعة دائمة لأجلِ التوصل إلى حلولٍ عاجلة لما يحتمل أَنْ يظهر مِنْ مُشْكِلاتٍ في النظامِ الصِحِّيّ. ولعلَّ فاجعة محرقة الأطفال الخَدَج فِي مُسْتشفًى اليرموك بمدينةِ بغداد، والَّذِي يُعَد مِن أكبرِ مَشافي العاصِمة خير مصداق عَلَى أَهمِّيَّةِ مراقبة إدارة الصِحِّة لوحداتِها الطِّبِّيَّة العاملة، حيث اتضح أنَّ مِطْفَأَةَ الْحَرِيق الَّتِي استخدمت فِي مُهِمّةِ السيطرة عَلَى الْحَرِيقِ الَّذِي اندلع بعد منتصف الليل في جناحِ الأطفال حديثي الولادة بالمُسْتشفًى آنفاً كانت عاطلة، ما أدى إلى تفاقمِ مجريات الحادث وتسببه بموتِ (14) طفلاً مِن الخَدَج، فضلاً عَنْ تعرضِ عدد مِن النساءِ إلى الإصابةِ بحالةِ اختناق شديد جراء الحادث. وهو الأمر الَّذِي يعكس استهانة الإدارة الصِحِّيَّة بأرواحِ المواطنين جراء تفشي الْفَسَادِ فِي أروقتِها، والَّذِي أفضى إلى إغفالِ إدارة المُسْتشفى أَهمِّيَّةِ وظيفة الصِّيانة لمعداتِها وتجهيزاتها.
بصرفِ النظر عَنْ ما أعقب هَذَا الحادثِ الأليم مِن أنْشِطَةِ إِجرائيّة مثل الاستقالات أو التحقيقات، فأنَّ بشاعتَه ربما تفرض علينا استحضار بعض ما وصل مسامعنا مِن التجاربِ العالمية فِي مجالِ السعي لتقديمِ الخدمات الطِّبِّيَّة للمواطنين بقصدِ تلمس أبعادها الإِنْسَانية، وَالَّتِي مِن بينِها اللجوء إلى تطويرِ خدمات الرعاية الصِحِّيَّة للأفراد فِي قريةٍ نائيةٍ بجزيرةِ مدغشقر الواقعة قبالة سواحل إفريقيا بواسطةِ استخدام طَّائِرَات مِن دونِ طَيَّار لنقلِ العينات الطِّبِّيَّة إلى مختبراتِ التحليل بزمنٍ قِياسيٍّ لا يتجاوز الساعتين، بغية المساعدة فِي تَشخيصِ الأمراض، وتوفير الأَدْوِيَةٌ للمرضى فِي الوقتِ المناسب. وأدهى من ذلك أنَّ الجهةَ المصنعة للطَّائِرَاتِ الَّتِي جرى التعاقد معها هي شَرِكة ناشئة!!.
العالَمُ المُتَقَدِّم، والَّذِي ربما ساهم في تطويرِ أنظمته الصِحِّيَّة بعض الأطباء العراقيين، يوظف الطَّائِرَات غير المأهولة حرصاً عَلَى تأمينِ الخدمات الصِحِّيَّة إلى السكانِ المحليين في قريةٍ نائية بعيدة عَن مراكزِ الحَضَاَرة، في حين تلجأ إدارة أحد أبرز مَشافي العاصِمة التاريخيَّة بغداد مِن دونِ خجلٍ إلى استخدامِ (العلب الكارتونية) لحفظِ الجثثِ المتفحمة لأطفالٍ لم يمضِ عَلَى إطلاقِ صرختهم الأولى سوى يوم واحد !!.
إنَّ إدارةَ الصِحَّةَ في العراق ملزمة بإقامةِ نظام صِحِّيّ يَتَمَتَّعُ بِكَفَاءةٍ عَالِيَةٍ فِي توفيرِ الخدماتٍ الصِحِّيَّة الأساسية للمواطنين كافة بالاستنادِ إلى معاييرٍ قِيَاسِية ترتكز عَلَى مبادئ عملية بمقدورِها تحقيق الجُودَة والأمان وَتكاليفٍ مقبولة، لأجلِ التأسيس لبيْئَةٍ صِحِّيَّةٍ سليمة تضمن الوصول بِجَدَارَةٍ وَأَهْلِيَّةٍ إلى مُجْتَمَعٍ معافى، إذ لا قيمة للتهديدِ بالاستجوابِ أو الحديث عَن الإقالةِ أمام ضعف خدمات الرعاية الصِحِّيَّة الأَوَّليَّة وَالخدمات العلاجية وَالتأهيلية المتأتي مِن سوءِ الإدارة، وَالَّتِي تعانيها أغلب مفاصل المؤسسة الطِّبِّيَّة العراقية، الأمر الَّذِي دفع الكثير من الأهالي للركون إلى خيارِ المُسْتشفيات الخاصة مِن أجلِ ضمان خدمات طِّبِّيَّة أفضل عَلَى الرغمِ مِن ارتفاع تكاليفها.
ما قيمة الاستقالة أو الإقالة حيال إهمال إدارة المُسْتشفى لمُهِمّةِ مراقبة صلاحية عمل مطافِئِ الْحَرِيق، والَّتِي أفضى عطلها إلى إلزامِ إدارة الصِحَّةَ تنظيم شهادات وفاة لأطفالٍ أبرياء انتقلت أرواحهم الطاهرة إلى بارئِها قبل أَنْ يجري تزويد ذويهم بشهاداتِ ميلاد ؟!
فِي أمانِ الله.