أسعار النفط المنخفضة والبدائل المتاحة للعراق للتكيف مع الوضع السائد
د. فراس الصفار
2016-03-22 05:38
في ظل أزمة انخفاض أسعار النفط العالمي وما يرتبط بها من إجراءات حكومية لتفادي أضرارها الاقتصادية، نشرت مجلة التمويل والتنمية في مارس/آذار 2016 مقالة بعنوان (30 دولاراً للبرميل)، للكاتب: مسعود أحمد/مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، تناولت إجراءات الدول المصدرة للنفط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظل أسعار النفط المنخفضة وآليات التكيف حول السياسات العامة، حيث يستذكر الكاتب الانخفاض الحاد في أسعار النفط عام 1986 ومقارنة بما يحدث الآن، وماهي السياسات الحالية المطبقة. ونحاول في هذا العرض تسليط الضوء على أهم السياسات المطبقة من هذه الدول، وماهي الإجراءات المطلوبة من الحكومة العراقية من خلال مجموعة من التوصيات والمقترحات.
لقد شهدت أسعار النفط العالمية الحالية انخفاضا حاداً من حوالي 110 دولارات إلى نحو 30 دولارا للبرميل؛ بسبب تباطؤ النمو العالمي، وزيادة إنتاج أوبك، والصلابة المدهشة لإمدادات النفط الصخري. والأهم من ذلك، أن لا أحد يتوقع عودة أسعار النفط إلى المستويات السابقة في المستقبل القريب، ومن ثم يتعين على البلدان المصدرة للنفط التكيف مع الواقع الجديد بدلا من انتظار نهاية هذه المرحلة من الأسعار المنخفضة، مشابهاً لما مرت به الدول المصدرة في أوائل عام 1986 في أعقاب قرار من بعض أعضاء منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) بتنفيذ زيادة كبيرة في المعروض من النفط، إذ سجل سعر النفط هبوطا حادا من حوالي 30 دولارا للبرميل إلى نحو 10 دولارات للبرميل، فاضطر صناع السياسات في ذلك الوقت إلى الاختيار من بين بدائل صعبة، كان لبعضها (مثل تخفيضات الاستثمارات العامة) أثر في المنطقة على المدى الطويل.
وبعد 30 عاما تقريباً، تحتاج الدول المصدرة للنفط إلى سياسات أفضل وأن تتجنب تكرار الأداء الضعيف في الثمانينات، ومع ما تواجهه حالياً من تحديات كبيرة متمثلاً بالجماعات الإرهابية والصرعات الإقليمية وتنامي أزمة اللاجئين وعجز كبير في الموازنة العامة، فمن الضروري تحري الاستجابات الصحيحة على مستوى السياسات العامة، ولاسيما مع استمرار متوسط أسعار النفط حوالي 35 دولار للبرميل في العام الجاري، و40 دولار للبرميل في عام 2017، وفقاً لأسواق العقود المستقبلية.
لقد أدى انخفاض النفط العام الماضي إلى خسارة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المصدرة للنفط حوالي 360 مليار دولار، ومن المتوقع ازدياد الخسارة هذا العام، مع استمرار هبوط الأسعار نهاية عام 2015 وأوائل عام 2016. وحتى الآن تلجأ البلدان المصدرة للنفط، كخط دفاع أول، إلى التريث وعدم استخدام مدخراتها المالية الضخمة للحد من تأثير انخفاض أسعار النفط على النمو الاقتصادي، إلا أن هذه الدول لاتستطيع الاستمرار في تحمل عجوزات كبيرة في الموازنة إلى وقت طويل، فقد سجلت نصف الدول المصدرة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عجزا كبيرا في عام 2015، ولا سيما الجزائر والبحرين والعراق وليبيا وعُمان والمملكة العربية السعودية.
ولكي تتمكن الدول المصدرة للنفط من ضبط حساباتها، سيتعين عليها الاختيار من بدائل صعبة، أي تخفيض النفقات بنحو الثُلث، أو تنفيذ زيادة كبيرة في الإيرادات غير النفطية، أو مزيج من الاثنين، وهو الوضع الأمثل. وتحاول هذه الدول في موازنة 2016 معالجة التحديات التي تفرضها أسعار النفط المنخفضة، من خلال مجموعة من الإجراءات أهمها:
1- خفض النفقات العامة بشكل عام، وهو ما قامت به السعودية، إذ خفضت نفقاتها بمقدار 14%، كما قامت قطر بتخفيض النفقات الجارية عدا الأجور والرعاية الصحية والتعليم والاستثمارات الرئيسة.
2- رفع أسعار الطاقة المحلية، إذ تبلغ تكاليف الحفاظ على أسعار الطاقة المحلية منخفضة حوالي 70 مليار دولار سنويا في دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2015 فقط، ولحسن الحظ، تتحرك أغلب الدول حاليا لمعالجة هذه المسألة، ما يساهم في تخفيض عجوزات الموازنة وتحقيق منافع بيئية إيجابية.
3- قامت الجزائر بتجميد التعيينات وتخفيض النفقات الرأسمالية، كما قامت الإمارات بخفض المدفوعات التحويلية، بما في ذلك التحويلات إلى الكيانات المرتبطة بالحكومة.
4- إيجاد مصادر جديدة للإيرادات وتوسيع نطاق ضرائب الشركات، مع إجراء التحسينات على الرسوم الانتقائية والضرائب العقارية. وتعمل الكويت حاليا على استحداث ضريبة على أرباح الأعمال.
5- استحداث ضريبة القيمة المضافة وتوسيع قاعدتها وتحسين التحصيل الضريبي ضمن مجموعة من التدابير الأخرى التي طبقتها إيران ودول الخليج العربي.
إن هذه الإجراءات تمثل دفعة أولى مهمة ويتعين على الدول المصدرة للنفط صياغة خطط متوسطة الأجل حتى يستمر تخفيض العجز على المسار الصحيح، وتنفيذ التدابير على مراحل زمنية للحد من الآلام الاقتصادية، والعمل على منع الإرهاق من الإصلاح. ولا بد أن تنظر هذه الدول بعناية إلى تأثير خفض العجز على البطالة وعدم المساواة.
والمجال يتسع لمزيد من التخفيضات في النفقات التشغيلية؛ نظرا للزيادة الكبيرة في الأجور والنفقات الإدارية والأمنية على مدار العقد الماضي. وتعمل بعض الحكومات أيضا على تقليص الاستثمار العام بعدة سبل، منها تأجيل المشروعات الجديدة. ونظرا للزيادة الحادة السابقة في المشروعات الحكومية، فلا شك أن المجال يتسع لتخفيض الهدر. ولكن، كما تعلمت الحكومات في الثمانينات، فإن تقليص الاستثمارات عشوائيا يمكن أن يضعف النمو في المستقبل. وعلى سبيل المثال، بعض المصروفات الرئيسة على البنية التحتية في قطاعات الصحة والتعليم والنقل لها قيمة كبيرة طويلة الأجل. ومن ثم ينبغي لصناع السياسات كذلك مراعاة رفع كفاءة الاستثمار العام. وتشير بحوث صندوق النقد الدولي إلى أن حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع إجراء التعديات الصحيحة في إدارة الاستثمارات العامة، يمكنها تحقيق نفس النتائج وتخفض إنفاقها بنسبة 20%.
وأخيرا، فإن التحدي المتمثل في الحفاظ على صلابة المالية العامة يتفاقم مع الحاجة لخلق الوظائف للقوة العاملة الوطنية الشابة المتوقع أن تنمو بنحو 10 ملايين نسمة على مدار الأعوام الخمسة القادمة. وسوف تكون عملية تطوير القطاع الخاص لخلق فرص العمل التي لم تعد الحكومات قادرة على توفيرها عملية محاطة بالتحديات. وسوف تقتضي توفير حوافز قوية للمواطنين للدخول في القطاع الخاص، وزيادة التوافق بين مناهج التعليم والمهارات التي تتطلبها الأسواق، وتحقيق مزيد من التقدم في تحسين مناخ الأعمال. ومن شأن توفير الفرص المفيدة وتحقيق النمو الشامل لجميع فئات السكان، المساهمة في الحد من مخاوف الضغوط الاجتماعية. وبالنسبة للبلدان في دائرة الصراع، فإن استقرار الأوضاع الأمنية هو أحد الشروط الأساسية الواضحة.
إن إحداث التحول في الاقتصادات المصدرة للنفط ليس بالمهمة السهلة، وسوف يكون بمثابة مشروع طويل الأجل، وسيقتضي إعطاء دفعة مستمرة للإصلاح والتواصل الجماهيري المدروس بعناية. وينبغي لصناع السياسات أن يتذكروا دائما المخاطر الماثلة في المجالات الأخرى من جراء انخفاض أسعار النفط، مثل مخاطر انخفاض جودة الأصول وانخفاض مستوى السيولة في النظام المالي. ولكن النبأ السار في هذا الشأن هو تزايد عزم صناع السياسات في معظم البلدان المصدرة للنفط على توخي منهج استباقي في معالجة هذه التحديات واستخدامها لإحداث التحول والتنوع في اقتصاداتها لبناء مستقبل اقتصادي أكثر قابلية للاستمرار.
وفي ضوء تحليل وعرض المقال السابق، ونظرا لطبيعة وخصوصية الاقتصاد العراقي في ظل الوضع السياسي والأمني والاجتماعي السائد، نستخلص مجموعة من المقترحات حول السياسات العامة الواجب التركيز عليها في المرحلة القادمة وكما يأتي:
1- التخصيص الأمثل للنفقات العامة وخفضها وتحديد حجم النفقات التشغيلية الذي لايمكن تخفيضه دون المساس بالرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية.
2- إعادة النظر بشكل جذري ودقيق في المشاريع الاستثمارية وبرامج تنمية الأقاليم في المحافظات وإجراء مسح شامل ودقيق للبيانات والكشوفات وإجراء مقارنة بين المصروفات التراكمية والتخصصيات المقدمة للمشاريع ومدة الإنجاز ومقدار الإنجاز لتحديد المشاريع الرئيسة لتنفيذها.
3- إجراء مراجعة وتدقيق حقيقي للحسابات الختامية للشركات العامة والمنشئات الحكومية وتحديد تكاليف الإنتاج والعوائد والأرباح والخسائر لتحديد الأفضل منها ورسم سياسات عامة للنهوض بها وتوفير إيرادات حكومية.
4- تحسين نظام الضرائب بشكل كامل والقضاء على الفساد المالي والإداري المستشري فيه واستخدام مبدأ العدالة في فرض الضرائب لتحقيق هدف إعادة تخصيص الدخل بين أفراد المجتمع.
5- تنمية الإيرادات الحكومية من ممتلكات الدولة العقارية المستغلة من قبل الأفراد أو الجهات الحكومية، مع مراعات إمكانية الاستفادة منها في بناء مشاريع ترفيهية وخدمية وسياحية تعود بالنفع العام الحقيقي للمجتمع فضلاً عن النفع المادي إن وجد.
6- مراجعة وتخفيض المنح والمساعدات المخصصة إلى هيئات التمويل الذاتي والجهات المحلية الأخرى، والجهات الخارجية، وتحديد نسبتها إلى إجمالي النفقات الجارية.
7- التركيز على قطاع الطاقة بوصفه صاحب النسبة الأكبر من الإيرادات والنسبة الأكبر من النفقات وتحديد الأولويات في الصرف والإيراد والموائمة لتحقيق هدف الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة.
8- مراجعة عقود جولات التراخيص بما يخدم الاقتصاد العراقي في جانب زيادة الإيرادات المتحققة من زيادة الإنتاج الخام أو إنشاء مصافي النفط أو إتمام إنشائها للحصول على المشتقات النفطية، فضلاً عن خفض النفقات العامة الناتجة عن استيرادها من الدول المجاورة، وإعداد خطة لمقارنة الإنتاج والاستهلاك والتكاليف والعوائد والأرباح والخسائر.
9- إعادة النظر في دور السياسة النقدية في العراق والخروج من دور الصيرفة الضيق إلى الدور الأوسع وهو السيطرة على النظام النقدي في العراق وتحقيق الاستقرار النقدي والقضاء على المضاربة وتعويم سعر الصرف بشكل تدريجي وبما يخدم الاقتصاد المحلي من حيث زيادة الإيرادات وخفض النفقات واستخدام مبدأ الشفافية للمعلومات والرقابة الشديدة على المؤسسات النقدية والمالية.
10- خفض نفقات الإدارة العامة للرئاسات الثلاث ومراكز الوزارات والهيئات والمحافظات والإدارة المحلية بشكل يتناسب مع النفقات الإدارية للجهات الحكومية الأخرى ولايزيد عن نسبة معينة من حجم النفقات التشغيلية العامة.
11- ضرورة تحديد حجم الفوائض المتحققة من الموازنات السابقة نتيجة عقود غير منفذة أو ودائع لدى صندوق تنمية العراق DFI أو لدى الجهاز المصرفي، واستخدامها في مشاريع تساهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي وتنشيط الاقتصاد.
12- أخيراً، لابد من إيجاد شفافية وكشوفات ولو كانت مستقلة للموازنة العامة العراقية من خلال ربط المنافع بالتكاليف في كل جزء من أجزاء الموازنة وفي كل قطاع وفي كل مؤسسة أو دائرة للتمكن من تقييم الأداء الاقتصادي وتحديد آلية الإنفاق والإيرادات والهدر في كل مفصل من مفاصل الموازنة العامة.