الرواقية والحكمة العملية
احمد شحيمط
2025-12-29 04:25
الرواقية مذهب فلسفي يوناني قديم، وللرواقية نسخة في الفلسفة الرومانية، نشأت الرواقية مع "زينون الرواقي" حوالي القرن الثالث قبل الميلاد بأثينا، ويمكن اعتبار سقراط وغيره من الفلاسفة اليونان الملهمين للرواقية في التعبير عن فلسفة الحياة والواقع، وفي قوة الفلسفة للعودة بالإنسان إلى ذاته بحثا عن السلام الداخلي، وإضفاء المعنى والقيمة على وجوده.
الرواقية المبكرة والرواقية المتأخرة
أسئلة مشروعة عن الحياة، وسلامة الحكم، تجنب الغضب، والانتقام، والتعامل بالإحسان لإظهار مشاعر المحبة، والعواطف النبيلة، السبيل للعيش الرغيد، وتحقيق الحياة الطيبة. إن الرواقية فلسفة عملية وأخلاقية، محبة للحكمة ومزاولتها، في جوهرها فلسفة حياة وفن للعيش، تنصب على الحكمة العملية، في وحدة متجانسة بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان والآخر، داخل مجتمع يكون العيش المشترك مصير الإنسان، ويكون العيش وفق قواعد ثابتة، غايتها تحقيق السعادة، والنفور من اليأس والشقاء، قواعد تشير للتوافق بين الإنسان وقوانين الطبيعة، والعيش تحت تصرف العقل والإرادة العقلية، هدف الإنسان في الحياة تحصيل الفضيلة، والعيش بانسجام مع العقل دون أن يتحكم في سلوك الإنسان الغضب والانفعالات.
الغضب جنون مؤقت يؤثر على رشدنا، وسكينة النفس عندما ينفعل الجسد، الغضب كما يشير بذلك الفيلسوف الرواقي "سينكا" منبعه التوقعات الخاطئة، سقف التوقعات بدون حدود أو بدون توقع حقيقة الحياة المتغيرة التي تحمل في طياتها البؤس والألم، وكل ما يمكن أن يتوقعه الإنسان، الغضب بمثابة عاصفة من الانفعال الذي يؤثر في الجسد، ويؤثر على الهدوء، وسلامة الحكم، مصدره التفاؤل المفرط، مما يولد القلق وخيبات الأمل، وبذور من اليأس والخوف، عندما لا تسير الأمور كما يرغب فيها الإنسان.
يجب الاستباق والتأخير في الرد على كل فعل أو موقف يتجلى فيه الغضب، يجب إبطاء الصوت لفرض الهدوء على الجسم، ضبط النفس، والسعي نحو الحكمة والتوازن النفسي، الهدوء السبيل للعيش في سلام داخلي، ولا أمل في تحقيق الفضيلة، والعيش وفق الحكمة والطبيعة إلا بالعقل وسلامة الحكم، العقل يدبر أمورنا، والحياة كما يعبر عنها الرواقيون أمثال سينيكا وماركوس أوريليوس قصيرة يقضيها الإنسان في التأمل وتعلم الفضيلة، الحياة سريعة، تلك التي يحياها الإنسان في قلب المعرفة والنظر، ويجب تقدير كل لحظة نقضيها في حب الخير والتأمل، وتجنب المشاعر السلبية، مشاعر تكدر صفاء الحياة وطمأنينة النفس.
لا سبيل للسعادة وتجب الشقاء والألم إلا بالأخلاق والعقل، والعيش وفق الفضائل الأربعة، وهي الحكمة والشجاعة والعدالة والتعقل، ومن هنا تتجلى الفضائل في مضمونها، وقيمتها النظرية والعملية، تلك الفضائل التي كان ينادي بها الفلاسفة اليونان الأوائل كأفلاطون وسقراط وأرسطو، السعادة في النفس من خلال قدرة العقل والإرادة العقلية على التعقل، والتحكم في الشهوات والأهواء، السعادة في ضبط النفس من خلال السيطرة على القوة الغضبية والقوة الشهوانية، وما يوازي ذلك من قوة وقدرة في التحكم والتدبير للمجتمع بناء على فاعلية الفيلسوف في إقامة المجتمع العادل أو الجمهورية المثالية.
يجب مدح ما هو أصيل في الإنسان، الحياة الطيبة التي ينادي فيها الرواقي هي حياة العقل وسلامة الحكم، الحياة المتناغمة مع قوانين الطبيعة، ترسيخ الفضيلة في النفس، والعيش بحكمة، والرجل الحكيم يسمو على الغضب بعقله وتوازنه، استقامة الحكم، وسلامة الفكر منبع الأصالة والحياة الطيبة، لذلك كتب الفيلسوف سينيكا عن سيكولوجيا الإنسان ونوازعه، كتب من الأعماق نحو تحليل مظاهر السلوك الإنساني، عن الغضب، والإحسان، والانتقام والعفو.
كتب من خلال رؤيته للعصر، وبناء على تمرسه في السياسة، واحتكاكه بالطاغية نيرون، مصيره كان معروفا، لم يمنع العفو وسياسة الصفح ودعوته للأخوة، والحكمة العملية، وصفاء النفس للعيش بالطريقة التي يريدها، نهايته مأساوية لأن حياته انتهت بالانتحار تحت أمر وضغط من نيرون، مما زاد في تعميق الهوة بين الفيلسوف والطاغية، وانتهت النتيجة إلى استحالة التجانس بين المفكر والسياسي، وذلك التناقض بين عالم الفضيلة والحكمة وقناعة رجل السياسة، المريض بأمراض السلطة والتسلط، وهوس التحكم والسيطرة.
رسائل الفيلسوف سينيكا إلى أمه"هيلفيا"، ورسائله إلى صديقه "لوسيليوس" في فن العيش والحياة، وفي الحكمة والسعادة، دروس في الحياة والتوازن النفسي، وفي قيمة الصبر والعفو، وقيمة العقل، والسيطرة على العواطف، دروس عامة ومهمة في معنى الوجود، المنفى لا يولد الابتعاد والإقصاء، الهروب من الحياة دليل على الضعف والهشاشة النفسية والعقلية، العزلة المكانية ليست قاتمة بالطريقة التي يراها الإنسان العادي، بل في العزلة النافعة ما يؤدي إلى ولادة الإنسان الحكيم من خلال تأملات من الداخل والخارج للحياة.
العزلة مفيدة في إزالة الألم واليأس، في إزالة كل أشكال النفور، والانتقام في تصفية الوعي والذاكرة من الشوائب، وما علق بالماضي عند الدراسة للفلسفة العملية، عند الإلمام بقواعد التفكير، عندما تفتح الفلسفة آفاق للتحدي والتفكير أو عندما يتحول الألم إلى حكمة، هنا يتعلق الفيلسوف بالفضيلة، ويسبح في فضاء المعرفة، وتترك الفلسفة في نفسه أثرا من الاعتدال والتوازن، ولذلك عبر الحاكم الفيلسوف "ماركوس أوريليوس" في كتابه "التأملات" عن مجموعة من الأشياء المهمة التي تنير طريق الإنسان كقواعد ومبادئ، حتى يتمكن من العيش في تناغم مع قوانين الطبيعة، والعقل الكلي، حتى يستطيع الإنسان العودة لذاته، وبناء عالمه على الفضيلة والهدوء، من التأملات، التأكيد على قيمة الذات، والتقليل من التوتر، والتركيز على تغيير الأشياء، والتأمل العميق الذي يولد في الإنسان الرغبة في التناغم، والعيش وفق العقل، والبحث الدائم عن السلام الداخلي، وليس البحث عن الخلاص، والاستجابة الحكيمة للعقل، وليس بالعواطف والشهوات الهدامة.
الحياة قصيرة، ويجب أن نقدر اللحظات التي نقضيها في التعلم والتأمل، فلا بديل عن الصفح والعفو لأنه من شيم الحكماء والأقوياء، وليس من شيم الضعفاء، الانتقام يولد الحقد والكراهية في النفوس، والسخط يلازم الإنسان مدى الحياة، العفو يعني الصفح، فضيلة سامية ترمي للتقويم وإظهار الحكمة والرحمة، والإحسان لا يتوقف على العطاء المادي، الإحسان جزء من الحياة الفاضلة، وحياة العقل، ولا يتأسس على شروط مسبقة، يستدعي النوايا الطيبة دون النظر لردود أفعال الطرف الآخر، دليل على السخاء والكرم، دليل على صدق النوايا والمشاعر، وهنا يؤدي الإحسان إلى بناء علاقة سليمة بين الناس دون ترقب النتائج من قبيل المدح والإطراء أو لغايات نفعية.
أخلاق الرواقية عملية منبعها الذات، والتقدير للذات في هدوء وصفاء، لا توجد سعادة في واقع القلق والتوتر، يشقى الإنسان بعقله إذا لم يحسن استخدامه، ويتعب في جسده إذا لم يتم التخلص من الألم والمعاناة الناتجة عن سوء تقدير للحياة النابعة من التوقعات الخاطئة، ومن التمثلات المبالغ فيها، الحياة تحمل مسرات، وأحزان كذلك، ويجب أن يكون الإنسان مستعدا لتحمل تبعات الحياة بليونة واعتدال، من يتحكم في حياتك يتحكم في قراراتك، ومن يكون وصيا عليك لا يمكن أن تنال الحرية، ولا يمكن أن تشعر بقيمتك كانسان.
الغضب والحسد والانتقام نتائج للمشاعر السلبية، والعفة والإحسان، والتأمل، والعيش وفق الطبيعة نتاج للعقل والحكمة، الفلسفة تدريب للعقل، والفيلسوف الرواقي يعيش على الفضيلة، ويبحث عن السلام الداخلي، ولا ينبع السلام والهدوء من خلال الأشياء المادية أو المكافئات الخارجية، لأن السلام وليد التأمل، والتعبير بالقلب والعقل عن الصفاء الذي ينتاب الذات، تصريف للمشاعر النبيلة في العطاء والصفاء الروحي، فن العيش على خطى الفلاسفة دون تصنع وتملق. الحياة في بساطتها، والذات منبع الصفاء والسكينة دون الرفع من سقف الرغبات والتوقعات.
الفلسفة بمثابة بستان، فيه أزهار وأشجار، ويثمر الثمار، ويفوح البستان بالأريج، والعطر الطبيعي، ودخولنا للبستان يجعلنا نشعر بتنوع أصناف الأشجار والفاكهة، كذلك الفلسفة تتضمن في مضمونها كل المعارف والعلوم، من المنطق والعلم الطبيعي، وعلم الأخلاق، والمعرفة يشتى أنواعها. الفلسفة بهذا المعنى، وحدة مترابطة الأجزاء، ولا يمكن فهم حقيقة الوجود إلا بالربط المتين بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان والعالم والآخر، في وحدة متكاملة ومتجانسة، السبيل الأوحد في بناء عالم يطبعه الانسجام والتناغم، وما يجعلنا كائنات نهدف للمبتغى الجيد، وحدة العقل يعني أن الثابت في الإنسان هو العقل، كما يتشابه في الغرائز والانفعالات، وينفصل الناس في القدرة على استعمال العقل، ونيل الحكمة، والعيش وفق الطبيعة، والتحكم في الغرائز، لا شيء مستقر، مصائرنا في خطر، والحياة كما يدركها الرواقي ليست كلها قائمة على التفاؤل، وبذلك يجب الحذر من تقلبات الحياة.
التفاؤل المفرط يؤدي للشعور بخيبة الأمل، ويصاب الإنسان بالإحباط والفشل، ويجب التأمل والتفكير في الموت والفناء لأننا بالفعل كائنات زمانية أو كما قال الفيلسوف "هيدجر" أن الفلسفة ما هي إلا تفكير وتأمل عميق في الموت، ومواجهة المصير والعدم أو كيف يحيا الإنسان وجوده، كوجود أصيل في واقع الحياة الضنينة التي تقدم نفسها لنا من حيث الرغبات والشهوات، وجودنا ينكشف بالحرية والتحرر، التأمل ينير معنى الوجود، نرتمي في الوجود وبين الموجودات، ونؤسس لوجود أصيل بعيدا عن الرتابة والثرثرة والفضول والالتباس. نحمي أنفسنا من القلق، ونختبر الحياة، ولا نرفع من التوقعات لأننا لا ندري ما يحمله الزمن، نترقب الأحداث.
يتعلق المرء بالوجود الأصيل، وينأى عن الوجود المزيف، الأمر يتعلق بالسير نحو الحرية، والأمر مع الرواقية يستدعي الفضيلة والحكمة العملية، يجب التمييز بين الأشياء التي يمكن التحكم فيها، والأشياء التي تنفلت من التحكم، لا يجب أن يسيطر علينا الخوف واليأس، لا يجب أن نكون ضحايا للمشاعر السلبية، أن نكون أكثر نضجا وانفتاحا على ذواتنا والعالم، نترقب الأشياء، ونسيطر على الأفكار والانفعالات الذي تسير بنا نحو الهاوية، حتى لا يتم الشعور بالملل والرتابة والضعف، جوهر الفلسفة الرواقية البحث عن التغيير والهدوء، تقبل الأشياء، والسعي لتغييرها إذا تعلق الأمر بالحياة الداخلية، والعيش في اللحظة، ولا يمكن أن نكون رهائن للماضي، لا يمكن أن نعيش في المستقبل، لأن المستقبل تخمين، والماضي لم يعد قائما، وما هو مهم يتعلق باللحظة التي نعيشها، وكيف يمكن أن يحيا الإنسان في واقع يعج بالتناقضات، في واقع يمكن أن نتحكم فيه من خلال التحكم في أفعالنا وأفكارنا.
يجب التفكير في الذات، أن نكون على درجة من التأني والصبر، وعلى درجة عالية من الاعتدال والتناغم مع الذات والطبيعة، أن نترك للعقل يدبر أمورنا، والإنسان السعيد من يعرف كيف يتحكم في شهواته وغرائزه، أن تعيش ببساطة ودون تكلف، أن يكون فن العيش مناسبا لما نرغب فيه، إمكانياتنا لا تقوى على تحصيل جميع الرغبات لأن الرغبات لا حدود لها، والخير أن يعيش الإنسان بتقشف وزهد، ويساهم أكثر في بناء مجتمع على أسس سليمة من خلال الإخلاص في أداء الواجب.
قناعات فلسفية جعلت من الفلسفة الرواقية حية لأنها تحمل مبادئ راقية للعيش في واقع مادي صرف، مبادئ مهمة للتقليل من القلق، للعيش بسلام أمام مغريات الحياة المادية، والحياة السائلة التي انجرف معها إنسان اليوم، ولم يعد إلا رقما في عالم الاستهلاك، يعيش الخوف المصطنع، والعواطف والعلاقات الإنسانية الهشة، جرفته الليبرالية المتوحشة، وجعلت منه أداة في خدمة الرأسمال، وفي خدمة أرباب العمل في الاستهلاك للسلع والبضائع، ومن يدرك قناعات العيش على قوانين الطبيعة، وقناعات ذاتية في السير نحو الحكمة والفضيلة، ويعمل بالعفو، والإحسان وعدم الانتقام، والتحكم في وحوش الانفعالات، لا بد أن يكون رواقيا.