العلم أساس الدولة

مهيمن الأغا

2025-12-28 04:36

يقول الله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهي قاعدة فكرية وإنسانية سبقت كل النظريات الحديثة في الإدارة وبناء الدول، حين وضعت العلم في موضعه الطبيعي بوصفه أساس التمييز في المسؤولية والقدرة على القيادة واتخاذ القرار.

غير أن المشهد العام في العراق يشهد، في الآونة الأخيرة، تصاعد خطاب يقلل من أهمية أصحاب الشهادات العليا، ويذهب أحياناً إلى مساواتهم بغير المتخصصين في إدارة مؤسسات الدولة، وهو ما يثير تساؤلات جدية حول مستقبل الأداء المؤسسي، وطبيعة الرؤية المعتمدة في إدارة الشأن العام.

في الأدبيات الاقتصادية والإدارية الحديثة، يُنظر إلى أصحاب الشهادات الجامعية والعليا بوصفهم رأس المال البشري المتخصص، وهو العنصر الأكثر تأثيراً في كفاءة المؤسسات وجودة السياسات العامة.

وتؤكد تقارير البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الدول التي تستثمر في التعليم العالي وتضع الكفاءات المتخصصة في مواقع القرار، تحقق نتائج أفضل في الاستقرار الاقتصادي والإداري.

فالشهادة العلمية لا تعني مجرد تحصيل أكاديمي، بل تعكس قدرة على التحليل، وفهماً للبيانات، ومنهجية في التخطيط، وإدراكاً لتداعيات القرارات على المدى المتوسط والبعيد.

في الدول المتقدمة، تُدار المؤسسات الحكومية على أساس التخصص والخبرة. ففي ألمانيا واليابان وكندا والدول الإسكندنافية، يُعد التعليم العالي معياراً رئيساً للترقي الوظيفي وتولي المناصب العليا. ولا يُنظر إلى أصحاب الشهادات على أنهم نخبة معزولة، بل باعتبارهم الركيزة الأساسية لضمان استدامة الدولة وفاعلية مؤسساتها.

حتى في عدد من الدول النامية، أثبتت التجربة أن احترام الكفاءة العلمية كان مفتاحاً للتقدم، كما في ماليزيا والهند ورواندا، حيث جرى ربط القرار السياسي بالخبرة والمعرفة، لا بالاعتبارات الآنية. يمتلك العراق رصيداً كبيراً من الكفاءات العلمية في مختلف التخصصات، من أساتذة جامعات وأصحاب شهادات عليا وباحثين وأطباء ومهندسين وخبراء اقتصاد وقانون. إلا أن هذه الطاقات كثيراً ما تبقى بعيدة عن مراكز صنع القرار، في مقابل تصاعد دور الاعتبارات غير المهنية، وهو ما ينعكس سلباً على أداء المؤسسات ويعمّق أزمات الإدارة والخدمات.

إن مساواة المتخصص بغير المتخصص في مواقع المسؤولية لا تمثل عدالة، بل تُعد إخلالاً بمبدأ الكفاءة، وتؤدي إلى إضعاف الدولة وإفراغها من أدوات التخطيط العلمي. من منظور إداري، العدالة لا تعني المساواة المطلقة، بل تعني وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. فالدولة التي لا تميّز بين من يمتلك المعرفة والخبرة ومن يفتقر إليهما، إنما تحرم نفسها من أهم أدوات الإصلاح، وتفتح الباب أمام القرارات الارتجالية وتكرار الأخطاء.

إن إعادة الاعتبار لأصحاب الشهادات في مؤسسات الدولة العراقية ليست مطلباً فئوياً، بل ضرورة وطنية تمليها متطلبات الإصلاح وبناء دولة حديثة قادرة على مواجهة التحديات. فالتاريخ والتجارب الدولية تؤكد أن الدول لا تُدار بالشعارات، بل تُبنى بالعقول، ولا تستقر دون احترام العلم ووضعه في موقعه الطبيعي داخل مؤسساتها.

ذات صلة

أزمة الجهل في الفكر الدِّيني.. تحليل في المفهوم والنتائجمستقبل إدارة قطاع غزة.. سيناريوهات التحول السياسي والأمني والإقليميمدراء تحت الوصاية: قرار إداري أم تبعية تُعطل مؤسسات الدولة؟بين الكائن الثقافي بالطبيعة والكائن الطبيعي بالثقافةالمنهج النقدي بين إحسان عباس وإريك أورباخ