هل تشكّل الطبقة الاستهلاكية الجديدة في العراق طبقة وسطى حقيقية؟

محمد عبد الجبار الشبوط

2025-12-21 03:56

تشهد المدن العراقية، وبغداد بصورة خاصة، ظاهرة لافتة في السنوات الأخيرة تتمثل في الازدحام الشديد للمطاعم والمقاهي وارتفاع مستويات الإنفاق على الترفيه والطعام، رغم أنّ الأسعار ليست في متناول الفئات التقليدية ذات الدخل المحدود. وتوحي هذه الظاهرة بوجود شريحة اجتماعية تمتلك قدرة شرائية متنامية، ما يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كان العراق يشهد ولادة طبقة وسطى جديدة، وما طبيعة مواردها المالية، وهل هي طبقة منتجة أم طفيلية، ثم ما تأثيرها المحتمل على مسار التطور السياسي الديمقراطي والنمو الاقتصادي الإنتاجي في البلاد.

طبقة وسطى في المظهر، لا في الوظيفة

تبيّن القراءة الاجتماعية والاقتصادية أنّ ما يظهر اليوم ليس طبقة وسطى بالمعنى الكلاسيكي الذي يرتبط بالإنتاج، والتعليم المهني، والاستقلال الاقتصادي، بل هو أقرب إلى طبقة وسطى استهلاكية تنشأ داخل اقتصاد ريعي. تمتلك هذه الشريحة قدرة شرائية عالية نسبيًا، وتنفق بكثافة على الترفيه والسفر والطعام، لكنها لا تؤدي الوظيفة التاريخية التي أدّتها الطبقة الوسطى التقليدية في بناء الدولة الحديثة، سواء في العراق أو في أماكن أخرى.

فالطبقة الوسطى الحقيقية تتشكّل عادة من مهنيين، وأصحاب مشاريع، وموظفين ذوي إنتاجية عالية، ممن يرتبط دخلهم بعملهم، ويميلون إلى لعب دور سياسي ورقابي وإصلاحي؛ بينما الطبقة الاستهلاكية الحالية تتغذى من مصادر غير إنتاجية في الغالب.

مصادر الدخل: ريع يخلق استهلاكًا لا إنتاجًا

تتشكل الموارد المالية لهذه الشريحة من مجموعة مصادر تتوزع بين الرواتب الحكومية، والمخصصات والعلاوات، والاقتصاد الموازي القائم على التجارة والخدمات السريعة، إضافة إلى التحويلات الخارجية، والأرباح العقارية، والدخول الطفيلية المرتبطة ببيئة ما بعد 2003. وهذه المصادر ليست نتاج اقتصاد منتج، بل نتاج اقتصاد توزيعي ريعي يحوّل جزءًا من عائدات النفط إلى دخل استهلاكي، دون أن يقابله عمل أو قيمة مضافة حقيقية في الاقتصاد الوطني.

وعليه فإن هذه الطبقة – رغم اتساعها – ليست قوة إنتاج، بل قوة استهلاك، وهي جزء من دورة مالية مغلقة تعيد تدوير الريع بدل أن تخلق قاعدة اقتصادية مستقلة.

طبقة طفيلية في البنية، لا في النوايا

وصف هذه الشريحة بالطفيلية ليس حكمًا أخلاقيًا، بل وصف لبنيتها الاقتصادية؛ إذ إنها لا تنتج ما تستهلكه، وتعتمد في دخلها بصورة غير مباشرة على المال العام أو على نشاطات غير إنتاجية. وهذا يجعلها أقرب إلى طبقة تعيش على الريع بدل أن تخلق قيمة اقتصادية جديدة.

ومع أنّ الاستهلاك جزء طبيعي من الحياة الاقتصادية، إلا أنّ المشكلة تكمن في أنّ استهلاكًا بهذا الحجم، غير مدفوع بقاعدة إنتاجية وطنية، يتحول إلى عامل ضغط على العملة الأجنبية ويعمّق اعتماد السوق على الاستيراد.

الأثر السياسي: نزعة للاستقرار لا للإصلاح

تلعب الطبقة الوسطى المنتجة في الدول الحديثة دورًا محوريًا في دفع التحولات الديمقراطية؛ إذ تمتلك استقلالًا اقتصاديًا يجعلها قوة ضغط من أجل العدالة وتطوير مؤسسات الدولة. أما الشريحة الاستهلاكية الحالية في العراق فتميل إلى المحافظة على الوضع القائم، لأن مصالحها مرتبطة باستمرار نمط توزيع الريع وعدم زعزعته. وبذلك لا تظهر بوادر أنها ستكون قوة دافعة باتجاه الإصلاح السياسي أو مكافحة الفساد أو بناء دولة القانون، بل تميل تلقائيًا إلى الاستقرار دون تغيير.

وهذا ما يفسّر ضعف الحراك السياسي المدني المنتج، وغياب الكتلة الاجتماعية التي تشكّل عادة قاعدة للديمقراطية المستقرة.

الأثر الاقتصادي: تعزيز الريعية وإضعاف الإنتاج الوطني

يساهم الإنفاق الاستهلاكي المرتفع – غير المرتبط بالإنتاج – في تعميق الطابع الريعي للاقتصاد العراقي من خلال:

زيادة الطلب على السلع المستوردة.

خروج العملة الصعبة إلى الخارج.

ضعف الحوافز للاستثمار الصناعي والزراعي المحلي.

تشجيع توجّه رأس المال نحو التجارة والعمولات بدل المشاريع الإنتاجية.

وبذلك تتحول الطبقة الاستهلاكية إلى عنصر يرسّخ الاقتصاد الريعي بدل أن يكون رافعة لتحوله نحو الإنتاج.

إمكانية التحول: من الاستهلاك إلى الوعي الإنتاجي

ورغم الطابع الطفيلي الراهن لهذه الطبقة، إلا أنها ليست قدَرًا نهائيًا؛ إذ يمكن أن تتحول إلى طبقة وسطى حضارية منتجة إذا توفرت شروط موضوعية أهمها:

 تحوّل الدولة من دولة توزيع إلى دولة إنتاج.

ربط الدخل بقيمة العمل لا بالموقع السياسي أو التوزيع الريعي.

خلق بيئة استثمارية تسمح بظهور مشاريع صغيرة ومتوسطة.

إصلاح النظام الإداري والمالي بما يقلل من الفساد والازدواجيات.

عند ذلك فقط يمكن أن تصبح هذه الشريحة رافعة للتطوير السياسي والاقتصادي والثقافي.

خلاصة

إنّ ازدحام المطاعم وارتفاع الإنفاق الاستهلاكي ليسا مؤشري رفاه اقتصادي حقيقي، بل علامتين على وجود طبقة استهلاكية تشكّلت داخل اقتصاد ريعي، تمتلك القدرة على الإنفاق دون أن تمتلك قاعدة إنتاجية تسند هذا الإنفاق. وهي طبقة تميل إلى تثبيت الوضع القائم أكثر مما تدفع نحو التغيير، ولا تملك حتى الآن خصائص الطبقة الوسطى الحضارية التي تُعدّ شرطًا بنيويًا لإقامة دولة حديثة ذات اقتصاد منتج وديمقراطية مستقرة.

ذات صلة

من الاستنباط إلى التربيةهندسة البنية الاجتماعية والاقتصاديةرسالة من العراق.. التحدي الأكبر الذي ينتظر رئيس الوزراء المقبلتفكيك الاستبداد بين عبد الرحمن الكواكبي وجورج أورويللعنة‭ ‬الغرور‭ ‬العراقي