لماذا تُضّيع ثروتنا الوطنية؟

مصطفى ملا هذال

2025-11-01 03:44

في مدن العراق القديمة من الموصل إلى البصرة مرورا ببغداد وكربلاء، تنتشر عشرات المباني الأثرية التي تحمل بصمات حقب تاريخية متعاقبة، تعود إلى العهد العثماني والعباسي وما قبلهما.

هذه المباني لا تمثل مجرد أحجار وجدران باهتة، بل ذاكرة وطنية موثقة وكنز اقتصادي مهمل يمكن أن يتحول إلى مصدر دخل وسياحة ثقافية لو أحسن استثماره، ومع ذلك فهي لا تزال مهملة رغم كونها ثروة وطنية، فلماذا الإهمال؟

في العراق ربما كل شيء يعاني الإهمال وقد يعود ذلك الى فلسفة النظام السياسي القائم على التفريط بكل ما يمت للماضي بصلة، فالمباني الأثرية رغم أنها تمثل هوية المدن وتفاصيل تطورها عبر الزمن، لكنها اليوم تواجه خطر الاندثار بسبب الإهمال الرسمي وغياب الوعي الشعبي بقيمتها. 

فالعديد من البيوت التراثية في بغداد، وتحديدا في المناطق مثل البتاوين ورأس القرية، والكرادة القديمة، تحولت إلى خرائب أو مستودعات مهجورة، وتم حويل البعض منها الى مطاعم بلون عصري، بعد تغيير ملامحها، ظنا من القائمين على تلك المشروعات بأنها ستجلب المزيد من المرتادين، بينما في الواقع فهم شاركوا في طمس هوية هذا البلد بقصد او دون قصد.

وفي الموصل أيضا لا تبدو الحال أفضل بكثير عما يحدث في مناطق الوسط والجنوب، فما زالت آثار الحرب والإهمال تعرقل مشاريع إعادة إعمار المعالم التاريخية التي كانت تشكل وجه المدينة الحضاري.

ولهذا الإهمال جملة من الأسباب أبرزها وبحسب مختصين ضعف التمويل المخصص لقطاع الآثار والتراث، وتعدد الجهات المسؤولة عن الإشراف عليه، فبين وزارة الثقافة وهيئة الآثار ودوائر البلديات، تضيع مسؤولية الصيانة والتأهيل في دهاليز البيروقراطية.

كما يسهم ضعف القوانين في السماح ببيع أو هدم المباني القديمة دون محاسبة، ما يؤدي إلى فقدان معالم معمارية لا تُقدّر بثمن، أضف إلى ذلك غياب الوعي المجتمعي؛ فالكثير من السكان يفضلون هدم بيوتهم التراثية لبناء مجمعات سكنية أو تجارية جديدة، بدلا من ترميمها أو استثمارها سياحيا.

وهم بهذا الهدم حرموا أنفسهم من استثمار فرص اقتصادية هُدرت بالكامل، فالتجارب العالمية أثبتت أن المباني الأثرية يمكن أن تتحول إلى مصدر دخل مستدام، ففي تركيا والمغرب وإسبانيا ومصر وإيران وغيرها من الدول الاقليمية، جرى تحويل البيوت القديمة إلى فنادق تراثية ومقاه ومتاحف صغيرة تجذب آلاف الزوار سنويا، وهذه المشاريع لم تحفظ التاريخ فقط، بل أسهمت في تنشيط السياحة وخلق فرص عمل جديدة.

يقابل ذلك تأخرا واضحا وكبير في العراق لاسيما في هذا المجال رغم امتلاكه قاعدة أثرية غنية، فلا توجد ثقافة شعبية ومعرفة جماهيرية لدى اغلب شرائح المجتمع بأهمية إعادة تأهيل المباني الأثرية وتحويلها إلى مراكز ثقافية أو منشآت سياحية يمكن أن توفر عائدات مالية كبيرة، فضلا عن تعزيز مكانة المدن العراقية على خارطة السياحة العالمية.

ما نحتاجه اليوم هو رؤية وطنية، ليس مجرد ترميم شكلي، بل مشروع وطني شامل لإعادة تأهيل التراث المعماري، اذ يجب ان يقوم هذا المشروع على شراكة بين القطاعين العام والخاص، وأن يتضمن تشريعات صارمة لحماية الأبنية الأثرية، إضافة إلى برامج توعية للمجتمع بأهمية الحفاظ على التراث كجزء من الهوية الوطنية.

في النهاية إن الإبقاء على المباني الأثرية في حالتها المتهالكة يعني خسارة جزء من ذاكرة العراق وهويته الثقافية، ذلك ان هذه الأبنية ليست مجرد بقايا الماضي، بل يمكن أن تكون رافدا اقتصاديا ومعرفيا للأجيال المقبلة، وهنا يكون إعادة تأهيلها ليست ترفا ثقافيا، بل استثمار في المستقبل، وحماية لما تبقى من روح المدن العراقية.

ذات صلة

كيف تغيّر نفسك وتسيطر على أعصابك.. وكيف تصنع مشجّرة الأطاريح والمحاضرات؟الضباب الأسود في السياسةدور التكرار في تعميق الفهمالحرب الأميركية في الكاريبي غطاء للفشل الداخلي في الحرب على المخدراتمصالح الدول وأصحاب المصالح فيها