حلّ الدولتين بين السرد الإعلامي والسياسة
د. ياس خضير البياتي
2025-09-25 03:38
منذ أكثر من ثلاثة عقود، ظلّ «حلّ الدولتين» يتردّد كأشهر صيغة مقترحة لإنهاء الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. فقد وُلدت الفكرة في أوائل التسعينيات من رحم مؤتمر مدريد للسلام (1991)، لتتكرّس لاحقًا في اتفاق أوسلو (1993) الذي قدّم للمرة الأولى ملامح اعتراف متبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ومنذ ذلك الحين، تحوّل هذا الحلّ إلى ما يشبه «الإجماع الدولي المؤجَّل»: يتردّد في خطابات الأمم المتحدة، ويُدرج في بيانات القمم العربية، ويُعاد تدويره في التصريحات الأمريكية والأوروبية، لكن دون أن يتجاوز حدود الورق.
في العقد الأول من الألفية الجديدة، حاولت مبادرة السلام العربية (2002) التي تبنتها السعودية أن تمنح حلّ الدولتين دفعة إقليمية جديدة، لكنها اصطدمت بالرفض الإسرائيلي والانشغال الأمريكي بالحروب في العراق وأفغانستان. ومع مرور الوقت، تراجعت أولوية هذا المشروع أمام صعود قضايا أخرى في المنطقة، من الإرهاب إلى الملف النووي الإيراني.
غير أن الفكرة لم تمت. بل أعيد إحياؤها في السنوات الأخيرة عبر الإعلام الدولي والدبلوماسية المتعددة الأطراف. فبينما بدت السياسة أسيرة الجمود، تحوّل الإعلام إلى ميدان موازٍ، يقدّم «حلّ الدولتين» تارةً كحلم واقعي بالسلام، وتارةً أخرى كخرافة سياسية تجاوزها الزمن. وهكذا انتقلت المعركة من سؤال «من يملك الأرض؟» إلى سؤال أكثر عمقًا: «من يملك الرواية؟».
هذا التحوّل الرمزي مهّد الطريق إلى مبادرات عملية أكثر جرأة، كان أبرزها التحالف السعودي–الفرنسي في صيف 2025، حين أطلق البلدان مبادرة مشتركة تحت مظلة الأمم المتحدة، تُوّجت بـ مؤتمر نيويورك (22 سبتمبر 2025) الذي صاغ ما عُرف لاحقًا بـ إعلان نيويورك، وهو وثيقة دولية وقّعتها أكثر من 160 دولة تدعو إلى خارطة طريق واضحة نحو إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حل الدولتين. وبينما رفضت إسرائيل وأبدت الولايات المتحدة تحفظها، فإن هذه المبادرة أعادت المشروع إلى واجهة النقاش العالمي، لا بوصفه مجرد «صيغة مؤجلة» بل كخطة عمل جماعية تتحدى الروايات الأحادية.
الإعلام وصناعة السرد السياسي
منذ البداية، أدركت الأطراف المختلفة أنّ الإعلام ليس مجرد وسيلة نقل خبر، بل أداة لصياغة الشرعية السياسية. فالمشروع السياسي لحل الدولتين لم يُقدَّم فقط على طاولة المفاوضات، بل صيغ في غرف الأخبار، وعلى شاشات التلفزة، وفي أعمدة الصحف الدولية.
في الرواية الإسرائيلية الرسمية، جرى تصوير حلّ الدولتين بوصفه خيارًا محفوفًا بالمخاطر الأمنية، قد يفضي إلى نشوء «كيان معادٍ» على حدودها. وفي الإعلام العبري، وخصوصًا مع صعود اليمين، تمّ تأطير القضية في خطاب يقوم على «التهديد الوجودي»، ما جعل أي تنازل يُصوَّر كخيانة لأمن الدولة. هذا الخطاب انعكس في الإعلام الغربي المتعاطف، الذي كثيرًا ما قدّم وجهة النظر الإسرائيلية بوصفها «واقعية» في مقابل «رومانسية فلسطينية» لا تراعي الحقائق الأمنية.
على الضفة الأخرى، حمل الإعلام الفلسطيني والعربي سردية مزدوجة: فمن جهة، جرى التمسك بحل الدولتين باعتباره اعترافًا بوجود دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967. ومن جهة أخرى، لم يخلُ الخطاب من نزعة نقدية ترى في الحل تنازلًا تاريخيًا عن الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني. هذا التوتر في السردية انعكس إعلاميًا بين خطاب رسمي يميل إلى الواقعية السياسية، وخطاب شعبي متمسك بالحقوق التاريخية، وهو ما جعل الرسالة الإعلامية الفلسطينية في كثير من الأحيان متشظّية.
أما الإعلام الدولي، فظلّ لعقود طويلة ساحة صراع نفوذ: خطاب «حل الدولتين» كصيغة للسلام العادل، في مواجهة خطاب «الأمن أولًا». وتحوّل الإعلام الغربي في كثير من الأحيان إلى مرآة لسياسات العواصم الكبرى: واشنطن ولندن وباريس، حيث ظلّت القضية مؤطرة بمنطق «العملية السلمية» أكثر من منطق «العدالة التاريخية».
الإعلام الرقمي ومعركة الصور
أصبح الإعلام الرقمي في السنوات الأخيرة أداة مركزية في نقل الرواية الفلسطينية، متجاوزًا الرقابة التقليدية التي لطالما قيّدت الخطاب الإعلامي في السياقات الرسمية. ووفقًا لدراسة مؤتمر الإعلام والقضية الفلسطينية في ظل التحول الرقمي الذي نظمته جامعة فلسطين التقنية، فقد مكّن هذا الإعلام الفلسطينيين من توثيق الانتهاكات الإسرائيلية بالصوت والصورة، ونشرها عالميًا عبر منصات مثل تيك توك وتويتر، مما ساهم في خلق حالة من التعاطف الدولي، كما حدث خلال حرب أكتوبر 2023 على غزة، حين دفعت مشاهد القصف على المستشفيات والمدارس منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش إلى فتح تحقيقات ميدانية.
هذا التحول لم يقتصر على نقل الحدث، بل امتد إلى إنتاج رمزية سياسية جديدة، تعيد تعريف القضية الفلسطينية من زاوية إنسانية. فصورة الطفل الشهيد محمد الدرة عام 2000 كانت من أوائل الصور التي شكّلت وجدانًا عالميًا حول معاناة الفلسطينيين، واليوم تتكرر هذه الرمزية عبر صور رهف زعيتر تحت الأنقاض، ومشاهد اقتحام المسجد الأقصى، التي تنتشر على المنصات الرقمية وتُعيد صياغة الخطاب بعيدًا عن مفردات السياسة التقليدية.
في دراسة للباحث سائد حسونة بعنوان «دور الإعلام الرقمي في تعزيز الرواية الفلسطينية خلال الحرب على غزة»، تم التأكيد على أن الوسوم الرقمية مثل #GazaUnderAttack و#SaveSheikhJarrah لم تكن مجرد تعبيرات تضامنية، بل تحوّلت إلى أدوات ضغط سياسي دفعت نوابًا في الكونغرس الأمريكي، مثل إلهان عمر ورشيدة طليب، إلى تبني خطاب أكثر جرأة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية. كما ساهمت شخصيات مؤثرة مثل بيلا حديد ومارك روفالو وروجر ووترز في توسيع نطاق التعاطف العالمي، من خلال نشر محتوى توثيقي وصل إلى عشرات الملايين، رغم حملات التشويه الإسرائيلية المضادة.
لكن هذا التأثير واجه تحديات تقنية، كما تشير دراسة منشورة في المركز الديمقراطي العربي. فقد تدخلت خوارزميات المنصات الرقمية في تصنيف المحتوى الفلسطيني، ما أدى إلى حذف أو تقليص وصول آلاف المنشورات التي توثق الانتهاكات، بحجة مخالفة «سياسات النشر». وقد تجلّى هذا التحدي بوضوح خلال أحداث مايو 2021، حين تصدّر وسم #FreePalestine الترند العالمي، لكن آلاف المنشورات المرتبطة به حُذفت تلقائيًا، ما أثار جدلًا واسعًا حول حيادية المنصات، ودفع منظمات حقوقية إلى المطالبة بمراجعة سياسات المحتوى.
في المقابل، أدركت إسرائيل مبكرًا خطورة هذا التحول، فأنشأت وحدات خاصة في وزارة الخارجية لإدارة «الدبلوماسية الرقمية»، عبر حسابات رسمية مثل @Israel و@IsraeliPM، وسفراء رقميين يردّون على الوسوم الفلسطينية بمحتوى مضاد. إلا أن هذا الخطاب، رغم تنظيمه، غالبًا ما افتقر إلى العاطفة والرمزية، ما جعله أقل قدرة على اختراق الرأي العام العالمي.
باختصار: يمكن القول إن الإعلام الرقمي تجاوز دوره التقليدي، ليصبح فاعلًا سياسيًا مستقلًا، يعيد تعريف مفاهيم مثل الاحتلال والمقاومة والعدالة، ويشكّل ضغطًا جماهيريًا عابرًا للحدود، وينتج سرديات مضادة تتحدى الرواية الرسمية الإسرائيلية. وبهذا، تحوّل مشروع حلّ الدولتين من صيغة تفاوضية إلى رمز أخلاقي عالمي، تتجاذبه الروايات وتعيد صياغته منصات الإعلام الجديدة.
الدبلوماسية الإعلامية والتأثير الدولي
في ظل تراجع فعالية الدبلوماسية التقليدية في معالجة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، برزت الدبلوماسية الرقمية والدبلوماسية متعددة الأطراف كأدوات جديدة لإعادة تشكيل السرد السياسي الدولي. فقبل انعقاد مؤتمر نيويورك في سبتمبر 2025، الذي دعت إليه السعودية وفرنسا تحت مظلة الأمم المتحدة، شهدت الساحة الدولية نشاطًا رقميًا مكثفًا، تمثل في حملات إعلامية منسقة، وتصريحات رقمية عبر المنصات الرسمية، ووسوم تضامنية أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة النقاش العالمي.
وفقًا لدراسات حديثة، فإن الدبلوماسية الرقمية لم تعد مجرد وسيلة ترويج، بل أصبحت منصة استراتيجية تستخدمها الدول والمؤسسات الدولية لتوجيه الرأي العام، وبناء شرعية سردية قبل اتخاذ أي خطوة سياسية. وقد ساهمت هذه الدينامية في خلق حالة من التمهيد الرمزي للمؤتمر، حيث ظهرت تصريحات رسمية على حسابات وزارات الخارجية، وسفراء رقميين يروّجون لحلّ الدولتين بوصفه «خيارًا أخلاقيًا» و»ضرورة إنسانية»، لا مجرد تسوية سياسية.
في هذا السياق، لعبت الدبلوماسية متعددة الأطراف دورًا تكامليًا، إذ لم تقتصر المبادرة على دولتين، بل حشدت دعمًا من أكثر من 160 دولة، ما منحها طابعًا مؤسسيًا جماعيًا، يتجاوز الطابع الثنائي أو الإقليمي. هذا التعدد في الأطراف عزز من شرعية المبادرة، ووسّع نطاق التأثير الإعلامي والدبلوماسي، خاصة مع تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة لصيغة المؤتمر، رغم اعتراض الولايات المتحدة وإسرائيل.
من جهة أخرى، حاولت إسرائيل مواجهة هذا الزخم عبر أدوات «الدبلوماسية الرقمية المضادة»، مستثمرة شبكات إعلامية غربية، ومنصات رسمية مثل @Israel و@IsraeliPM، لترويج سردية أمنية تُظهرها كدولة ديمقراطية مهددة. إلا أن هذه المقاربة، رغم تنظيمها، واجهت صعوبة في منافسة الخطاب الإنساني المتعاطف الذي انتشر عبر الإعلام الرقمي الشعبي، خاصة في ظل توثيق الانتهاكات الميدانية.
وهكذا، يمكن القول إن الصورة المتوقعة لحلّ الدولتين لم تُصنع فقط في قاعات المؤتمرات، بل تشكّلت عبر تفاعل معقد بين الدبلوماسية الرقمية، والدبلوماسية متعددة الأطراف، والإعلام الشعبي، ما جعل السردية السياسية أكثر تعددية، وأقرب إلى صيغة أخلاقية–رمزية، تتجاوز الحسابات الجيوسياسية التقليدية.
الخلاصة
يقف مشروع حلّ الدولتين في المرحلة الراهنة عند نقطة تحول حرجة، تتقاطع فيها الاعتبارات السياسية مع الديناميات الإعلامية. فعلى المستوى الواقعي، تتآكل فرص تطبيق هذا الحل بفعل التغيرات الميدانية، من توسّع الاستيطان إلى تعقيدات الانقسام الفلسطيني، ما يجعل إمكاناته السياسية أكثر صعوبة. في المقابل، يظل المشروع حاضرًا بقوة في الخطاب الإعلامي، حيث تتجاوز الروايات حدود التغطية الخبرية لتتحوّل إلى أدوات تأثير رمزي واستراتيجي.
لقد أثبت الإعلام، بشقيه التقليدي والرقمي، أنه ليس مجرد وسيط ناقل للمعلومة، بل فاعل مركزي في تشكيل التصورات السياسية وصياغة الشرعية الدولية. فالمعركة لم تعد مقتصرة على الجغرافيا والحدود، بل امتدت إلى الفضاء الرمزي الذي تُدار فيه الصراعات على العقول والقلوب.
وفي هذا السياق، بات الإعلام ميدانًا حاسمًا للصراع السردي، تتنافس فيه الروايات على تمثيل العدالة والواقعية، ويُعاد من خلاله تعريف مشروع حلّ الدولتين، لا بوصفه خطة سياسية فحسب، بل كرمز أخلاقي تتجاذبه القوى الفاعلة في المجالين السياسي والإعلامي.