في دائرتي النسيان والضوء
د. عبد الحسين شعبان
2025-09-22 04:26
في 30 آب / أغسطس مرّت ذكرى اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، وحسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (الذي دخل حيّز التنفيذ في 1 تموز / يوليو 2002)، والاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري (20 تشرين الثاني / نوفمبر 2006)، يعتبر الاختفاء القسري جريمة ضدّ الإنسانية، وهي لا تسقط بالتقادم والمطلوب إجلاء الحقيقة مهما طال الزمن.
وقد أحصت الأمم المتحدة زهاء 561 ألف حالة اختفاء قسري في 115 دولة منذ العام 1980 وإلى اليوم، وأوردت أنه من أيار / مايو من العام 2024 ولغاية أيار / مايو 2025 ثمة 1287 حالة اختفاء قسري في 38 دولة.
انشغلت بملف الاختفاء القسري وعلى مدى أربعة عقود ونيّف من الزمن، بدءًا بقضية د. صفاء الحافظ ود. صباح الدرّة ومرورًا بقضية السيد محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى، وشمل الأمر قضايا عديدة لشخصيات معروفة اختفت قسريًا في العراق مثل عايدة ياسين رئيسة رابطة المرأة العراقية ودارا توفيق رئيس تحرير جريدة التآخي ود. أكرم الشبيبي الشخصية الوطنية المعروفة والصحافي ضرغام هاشم والمفكر الموسوعي عزيز السيد جاسم والقيادي الشيوعي الصديق شاكر الدجيلي وآخرين.
اخفاء قسري
وعربيًا انصبّ اهتمامي على متابعة ملابسات وتفاصيل قضية الصديق منصور الكيخيا وزير خارجية ليبيا الأسبق، الذي اختفى قسريًا بالقاهرة من فندق السفير بالدقي في 10 كانون الأول / ديسمبر 1993 بعد انتهائنا من اجتماع الجمعية العمومية (المؤتمر الثالث) للمنظمة العربية لحقوق الإنسان ، كما بقيتُ منشغلًا وباهتمام كبير بقضية اختفاء السيّد موسى الصدر والوفد المرافق له في ليبيا في 25 آب / أغسطس 1978، كما أثارت قضية اختفاء القيادي البعثي شبلي العيسمي من أمام منزل ابنته في عاليه بلبنان في 24 أيار / مايو 2011 أسئلة كثيرة حاولتُ متابعة بعض ما اكتنفها من غموض وإبهام، وكنت قد تابعت على مدى سنوات قضية اختفاء المهدي بن بركة من مقهى ليب Lep في باريس العام 1965.
وكتبتُ خلال العقود الماضية لعدّة مرّات عن الاختفاء القسري بما فيه اصدار كتاب باللغتين العربية والإنكليزية بعنوان «الاختفاء القسري في القانون الدولي – الكيخيا نموذجًا»، دار شؤون ليبية، واشنطن – لندن، 1998، كما ساهمتُ في إعداد عدد من التقارير الدورية الصادرة عن المنظمة العربية لحقوق الإنسان خلال عملي فيها لنحو عقد ونيّف من الزمن لتدقيق كلّ ما يتعلّق بالاختفاء القسري في البلدان العربية.
وتعاونتُ مع منظمة العفو الدولية بهذا الخصوص، وكذلك مع الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان والشبكة الأورومتوسطية، فضلًا عن إلقائي محاضرات أكاديمية على طلبة الدراسات العليا، في جامعة صلاح الدين (1999 – 2001) و (2008 – 2010) وجامعة اللّاعنف في بيروت منذ العام 2009 وإلى اليوم، حول قضايا الاختفاء القسري من ضمن برنامج خاص لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، إضافة إلى قضايا اللّاعنف وفلسفتها وثقافتها والتربية عليها.
في شباط / فبراير 2025 كان قد مضى على اختفاء صفاء الحافظ وصباح الدرّة أربعة عقود ونصف من الزمن بالكمال والتمام، وعلى الرغم من الإطاحة بالنظام السابق، فإن مصيرهما ما يزال مجهولًا، ولم تُبذل المساعي الكافية لإجلائه، أسوة بآخرين، في حين أجلي مصير الكيخيا وأقيم احتفال كبير له في أواخر العام 2012 بعد اكتشاف رفاته، لاسيّما بعد اعتراف عبد الله السنوسي مدير المخابرات الليبية الأسبق بلقائه مرتين في طرابلس في قبو سرّي بعد اختطافه ونقله سرًا من مصر إلى ليبيا، حيث قضى في السجن نحو 4 سنوات وتوفاه الله بعدها.
وقد دعيت للمشاركة بالاحتفال الذي أقيم على شرف تكريمه وألقيت كلمة بالمناسبة إلى جانب ممثل الأمم المتحدة طارق متري ورئيس المؤتمر الوطني الليبي (رئيس الدولة) محمد المقيرف ونائبه جمعة عتيقة ورئيس الوزراء علي زيدان، اعترافًا بالدور الذي لعبناه في الضغط من أجل إجلاء مصيره، لاسيّما تشكيلنا لجنة للدفاع عنه في لندن برئاسة الشاعر بلند الحيدري، إضافة إلى لجنة قانونية في القاهرة.
محافل حقوقية
منذ الثمانينيات لم أترك مناسبةً إلّا وذكّرتُ فيها باختفاء الحافظ والدرّة، سواء في المحافل الحقوقية العربية والدولية أو في المقابلات الصحفية والإعلامية أو في الدراسات والمقالات في الصحف والدوريات، ولا يعود الأمر إلى اعتبارات شخصية للعلاقة الصداقية بكليْ الشخصيتين الأثيرتين، بل للدلالات الحقوقية والقانونية والإنسانية الخاصة للكشف عن الجهات الخاطفة والمتواطئة والمدسوسة التي أسهمت في أن تقع هاتان الشخصيّتان بيد الخاطفين، لا سيّما وكانا قد اعتقلا قبل ذلك وتعرّضا للتحقيق والاستجواب لأكثر من مرّة في العام 1979 خلال الحملة البوليسية ضدّ الشيوعيين واليساريين.
وحتّى بعد تغيير النظام وانكشاف الكثير من الأسرار، فقد ظلّت قضيّتهما خارج دائرة الضوء، ويراد لها أن تكون في دائرة النسيان، وربّما يكون من مصلحة البعض ذلك، كي لا تتمّ المساءلة الضرورية، وكي لا ينال المتورّطون عقابهم العادل، ولكن ذوي الضحايا وأصدقائهم ومَنْ تعنيهم قضية حقوق الإنسان يهمهم بشدّة إجلاء مصير الشخصيّتين الوازنتين، فالحافظ شخصية قانونية وأكاديمية وعضو مجلس السلم العالمي، والدرّة شخصية اقتصادية وأكاديمية وشغل سابقًا منصب نائب رئيس اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي.
إن السكوت عن جريمة الاختفاء القسري للحافظ والدرّة، ومحاولة التقليل من شأنها، هو ما يريده الخاطفون والمتواطئون للإفلات من العقاب، الأمر الذي سيتكرّر إن لم يُجلَ مصير المختفين قسريًا، والأمر لا يقتصر على شخصيات عامة، بل إنه يشمل مجـــــموعات ثقافية وبشرية تمّ استهدافها على مراحل مثل الكرد الفيليين والمسيحييّن والصابئة المندائيّين والإيزيدييّن، حيث تمّ تغيــــــيب أعــــــــــداد غير قلـــيلة منهم، وما يزال ذويهم والرأي العام ينتظر الكشف عن مصائرهم امتثالًا للعدالة.