شحة المياه: ازمة دبلوماسية ام تقنية؟
مصطفى ملا هذال
2025-09-03 05:25
خرج ملف المياه في العراق عن كونه قضية خدمية او قطاعية يمكن معالجها بقرار محلي او اجراء مرحلي، بل تحولت الى ازمة وجودية تهدد الامن الغذائي والاقتصادي لآلاف الأشخاص من سكنة الاهوار في جنوب العراق وكذلك المدن العراقية الأخرى التي تشهد ازمة في المياه بصورة عامة.
وبسبب شحة المياه فان أسلوب الحياة الذي يمتد لآلاف السنين بات مهددا، ففي السابق كان الجفاف يمكن ان يستمر لموسم او موسمين، بعدها لسنة او سنتين، بينما في الفترات الأخيرة أصبحت السمة الغالبة هي سمة الجفاف.
حتى أصبحنا نرى في الاهوار المُدرجة ضمن قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) للتراث العالمي، مساحات كبيرة يابسة، الا من بعض المستنقعات التي حولتها الحكومة الى قنوات مائية قامت بتعميقها لكي يتسنى للحيوانات النزول والشرب منها.
ومن الأسباب المباشرة في تفاقم ازمة المياه في البلاد هو الصراع الداخلي على المياه داخل الحدود الإدارية لبعض المحافظات وغياب العدالة في توزيع المياه، الى جانب ذلك هو الأسلوب الخاطئ في إدارة الموارد المائية، فلا تزال الطرق المستخدمة في الري هي الطرق القديمة –الإغراق – التي بموجبها تُهدر كميات كبيرة من المياه.
كذلك تعاني الأهوار التي تتغذى أساساً من أنهار وروافد تنبع من تركيا وإيران المجاورتين، بفعل سدود بنتها الدولتان على نهري دجلة والفرات، وهو ما دفع حكومة بغداد الى المحاولة الدائمة لترشيد استخدام المياه لتوفير ماء الشرب لـ46 مليون نسمة في البلد وتغطية احتياجاتهم الزراعية، ليس في مناطق الاهواء بجنوب البلاد.
شحة المياه في العراق لها جذور ممتدة ومتشابكة مع الوضع السياسي في البلد، فملف المياه أصبح من اهم الملفات التي عجزت الدبلوماسية العراقية من التوصل الى حلول من دول المنبع، فلا تزال الإطلاقات المائية الواصلة الى العراق اقل بكثير من الاحتياج المحلي.
أضف الى ذلك ضعف التفاهمات السياسية في هذا الخصوص. وساعد على تدهور الوضع المائي في البلاد غياب الرؤية الحكومية، وفقدانها لاستراتيجية قريبة او بعيدة الأمد.
فمثلا لم يضع العراق في حسابته الوصول الى هذه المرحلة من الازمة، ولم يفكر ببناء ولو سدا واحدا لتخزين المياه في أوقات الوفرة او الامطار الغزيرة، التي تجتاح البلد في موسم الشتاء، وتذهب هذه الكميات الكبيرة الى الوديان والبحيرات دون أدنى درجة من الافادة منها.
ولا شك يعود ذلك الى السبب المذكور أعلاه، وهو ضعف العمل الدبلوماسي العراقي على جميع المستويات وبالأخص ملف المياه الخطير والذي بات يهدد الثروة الحيوانية والزراعية في البلاد.
ويطاول التهديد كذلك التنوع البيولوجي وحيوانات مختلفة مثل السلاحف وثعالب المياه ذات الفراء الناعم المعروفة باسم "ماكسويل" وعشرات أنواع الطيور المهاجرة التي تقضي الشتاء في الأهوار، فلا يزال التهديد قائم فبعد ان كان يوجد في الاهوار أكثر من 142 نوعا من الطيور البرية، انتهت الحال بوجود 22 نوعا لا أكثر.
ومن النتائج الأخرى المتربة على شحة المياه، هي تقلص المساحات المزروعة، خاصة محاصيل الحبوب، ما يهدد الأمن الغذائي ويزيد من الاستيراد، كذلك النزوح الداخلي، الذي يؤدي بطريقة او بأخرى الى التغيير الديموغرافي في مناطق جنوب العراق التي شهدت وتشهد موجات نزوح بسبب ملوحة شط العرب وقلة المياه العذبة.
ولهذه الحال تداعيات إقليمية خطيرة على البلد، فقد أصبحت مسألة شحة المياه ورقة ضغط سياسي بيد دول الجوار، فالعراق يجد نفسه مضطرًا للتفاوض في ظل ميزان قوة مختل لصالح تركيا وإيران، ما يفرض الحاجة إلى دبلوماسية مائية نشطة تستند إلى القانون الدولي للأنهار المشتركة، مع الاستعانة بالأمم المتحدة أو وسطاء دوليين لإيجاد اتفاقات مُلزمة وعادلة.
ولكي ندخل منطقة محصنة وغير مهددة بالاحتياج المائي، لا بد من مراعاة بعض النقاط الاساسية، التي تأتي بمثابة خارطة عمل وإصلاح شامل لهذا الملف الحيوي، من بين هذه البنود هو استبدال طرق الري القديمة بالتنقيط والرش لتقليل الهدر، وإدخال أصناف زراعية مقاومة للجفاف وتستهلك كميات أقل من المياه، فضلا عن دعم البحث العلمي الزراعي لتطوير استراتيجيات تتناسب مع شح المياه، وإنشاء شبكات وطنية لإعادة تدوير المياه العادمة ومعالجتها للاستخدام الزراعي والصناعي على المدى البعيد.
اما على المستوى القريب فيمكن ان تقوم الجهات المعنية بوضع تسعيرة للمياه في بعض القطاعات لتقليل الهدر وترشيد الاستهلاك، وفتح حوار مستمر مع تركيا وإيران على أساس اتفاقيات دولية ملزمة مثل “اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية 1997”، وأخيرا الاستفادة من النفوذ الاقتصادي للعراق (الغاز والنفط) كأوراق تفاوضية مقابل ضمانات مائية.
خُلاصة ... شحة المياه في العراق لم تعد أزمة مستقبلية، بل واقع ملموس يتطلب معالجات عاجلة، وإذا لم يتحرك العراق بسرعة عبر إصلاح داخلي جاد، وتفعيل أدواته الدبلوماسية والإقليمية، فإن الخسائر قد تتجاوز حدود الاقتصاد لتصل إلى تهديد بقاء الدولة واستقرارها.