قصابون من نوع آخر: من دفاتر مفاوضات اقتصادية في لندن

د. مظهر محمد صالح

2025-08-20 05:28

1-تمهيد :

الحرب على جبهتين

في سنوات الحرب ضد الإرهاب الداعشي، وبينما كانت الجبهات العسكرية مشتعلة، كانت الجبهة الاقتصادية لا تقل ضراوة، انهيار أسعار النفط، واجواء المالية العامة للعراق كانت أمام اختبار قاسٍ، وعجز الموازنة بات كجرح مفتوح يهدد كل شريان في جسد الدولة.

في ذلك المناخ المضطرب، كان لا بد من تحريك المسار الدبلوماسي–الاقتصادي بحثًا عن تمويل خارجي، يقي البلاد من الانحدار نحو دائرة الحرج، ويمنحها متنفسًا للاستمرار.

من هنا جاءت تلك الرحلة إلى لندن، قلب أوروبا المالي، ليس بحثًا عن صفقات تجارية أو بروتوكولات شكلية، بل عن قارب قوة يُبقي البلاد واقفة على قدميها لبلوغ النصر.

2-مفاوضات في قلب الضباب

ما جرى هناك لم يكن مجرد مفاوضة على قرض، بل مواجهة بين رؤيتين:

رؤية دولة تبحث عن تمتين مصادر قوتها، ورؤية أسواق لا ترى في العالم سوى أرقام ومعادلات.

ما زلت أذكر ذلك الخريف الرمادي، حين كانت المدينة مبلّلة بمطرها، وملفّاتنا مبلّلة بأرقام الديون.

كان خريف لندن يلفّ المدينة بضبابه الكثيف، كأن السماء نفسها تستعدّ لمفاوضات لا تعرف الرحمة.

وفدنا، المثقل بأعباء الحرب والعجز المالي، يشق طريقه نحو قلب العاصمة المالية، حيث تُصاغ القرارات التي لا تُمحى من دفاتر التاريخ.

الوجهة: قاعة عتيقة تعود إلى قرن مضى، كانت يومًا مركزًا لاتحاد نقابات الحديد والصلب في بريطانيا، حيث كانت تُصنع قرارات سكاكين شيفيلد الفولاذية التي طالما استوردناها في أزمنة ماضية، جئنا نصنع شيئًا آخر: قرضًا أوروبيًا ينتشل بلادنا من الغرق.

3- مفارقة القصّابين

و في الطريق، برزت مفارقة عجيبة، لافتات كبيرة تملأ الشارع، لا ترحب بنا، بل باتحاد قصابي المملكة المتحدة. رجال بقمصان بيضاء ومرايل جلدية يتدفّقون من كل صوب، يحملون حقائب لا نعرف إن كانت تحوي أدواتهم أم ملفاتهم.

ظننا لوهلة أنهم وفد المال المنتظر. لكن أحدهم اقترب وسأل بلهجة مرتبكة:

“عذرًا، هل هذه قاعة اجتماع اتحاد القصابين؟ لقد ضللنا الطريق.”

ابتسم أحد أعضاء وفدنا وقال:

“نحن بانتظار نوع آخر من القصّابين.”

وانفجر الجميع ضاحكين؛ ضحكة صافية، نادرة، وسط ضباب الأرقام والديون.

ضحك القصابون الحقيقيون، وضحكنا نحن الباحثين عن قصّابين من طراز مختلف، أولئك الذين لا يحملون سكاكين، بل عقودًا وفوائد مركّبة، يقطعون بها أوصال الميزانيات ويعيدون تشكيل مالية الدول على مقاسهم.

4- السكين التي لا تُرى

دخلنا القاعة، لا شيء يوحي بالرحمة، جدران من الطوب الأحمر، طاولات خشبية ثقيلة، وساعة عتيقة تدق ببرود، كأنها تراقب كل دقيقة تُخصم من مستقبلنا.

جلسنا أمام وفد الشركات المالية، وجوه جامدة، نظرات حادّة، وكلمات محسوبة كطلقات.

بدأ العرض: قرض مشروط، بفوائد متغيّرة، وسندات سيادية تُباع في أسواق مالية لا تعرف الشفقة.

كل بند في العقد كان كحدّ السكين.

كل شرط كضربة على لحم الميزانية.

وكل ابتسامة منهم كابتسامة القصّاب قبل أن يهوى بسكينه.

في الأزمنة التي كان الحديد فيها سيّد الاقتصاد، كان المستقبل يُصنع في أفران الصهر وعلى طاولات اللحام.

المدينة كانت تعرف أن صوت المطرقة على السندان هو وعدٌ بالعمل والغد.

لكن شيئًا ما تغيّر، تحوّلت القاعات التي كانت تنبض بحرارة المعدن إلى مكاتب زجاجية باردة، لا يُسمع فيها سوى نقرات لوحات المفاتيح وأصوات الحاسبات الرقمية.

حلّت الجداول المالية محل المخططات الهندسية، وأصبح إنتاج الصفقات أهم من إنتاج الأشياء.

5-ختاماً، من يقطع المستقبل؟

في تلك اللحظة، أدركنا أن القصّابين الحقيقيين ليسوا من يجزّون اللحم، بل من يجزّون المستقبل.

لم تعد السكين من فولاذ شيفيلد، بل صارت من بنود قانونية، ومصطلحات اقتصادية، وأرقام لا تعرف الشفقة.

في قاعات نقابات الحديد، عندما كانت تُصاغ قرارات أدوات الحياة، اصبحت اليوم تُصاغ أدوات السيطرة.

ضحكنا مع القصّابين التائهين، لأنهم – على الأقل – يقطعون ما يمكن أكله.

أما من نفاوضهم، فيقطعون ما لا يمكن ترميمه… إنها الرأسمالية المالية على حقيقتها: سلطة بلا وجه، تستبدل المصنع بالمصرف، والعمل بالصفقة، والمستقبل بالمضاربة.

هنا يصبح السوق ساحةً للهيمنة، لا للتبادل؛ وأدوات السيطرة ليست سيوفًا أو بنادق، بل جداول موازنة، وشروط قروض، ومؤشرات أسهم تتحكم في مصائر مدن وشعوب.

في مواجهة هذا المشهد، ندرك أن معركة الحياة لم تعد في المسالخ أو المصانع، بل في البورصات وغرف التفاوض، حيث يُقطع ما لا يمكن لأحد إعادته….انها الراسمالية المالية (Financial Capitalism)، اذ مازلنا ننظر اليها على انها مرحلة متقدمة من النظام الرأسمالي، تتميز بسيطرة المؤسسات المالية على النشاط الاقتصادي والسياسي في العالم، وتحوّل الربح من الإنتاج الصناعي إلى الربح من العمليات المالية والمضاربات، انها ‎نظام اقتصادي تُهيمن فيه المؤسسات المالية (مثل المصارف، وشركات الاستثمار، وصناديق التحوط) على القرارات الاقتصادية الكبرى، وان الربح الأساسي لا يأتي من إنتاج السلع والخدمات، بل من تداول الأصول المالية مثل الأسهم والسندات والمشتقّات المالية، وتكاد الوظيفة المركزية في الاقتصاد تصبح “الوساطة المالية” بين المدخرات والاستثمارات، بدلًا من الإنتاج الصناعي المباشر.

‏‎وان العملية المرتبطة بها تُعرف باسم التمويلنيّه ‏ (Financialization)، ‏‎أي تحويل كل شيء إلى أصل مالي قابل للتداول. انه عالم مابعد الامبريالية .. عالم اقتصادي داكن .. تبقى قصة جزره لا تنتهي.

ذات صلة

على خطى المعصوم(ع).. قواعد التربية في سيرة السيد الشيرازيماذا تعني: قضية رأي عام؟كربلاء ملتقى الشعوبترامب وجائزة نوبل للسلامالطبقية الاجتماعية: التعريف والأنواع والأمثلة