استراتيجيات الإمام الشيرازي في رفع الوعي الديني
علي الموسوي
2025-07-23 05:34
لا يمكن لأي فكرة، أو مبدأ، أو دين، أن يجد له موطئ قدم راسخ في قلوب النَّاس أو موضعًا في نسيج المجتمع، ما لم يُقدَّم بعناية وعقل، وما لم يُعرَّف به تعريفًا واضحًا شاملًا يُظهر جوهره النَّقي، ويُبيِّن محاسنه ومزاياه، ويُزيل ما يُحيط به من غموض أو تشويه؛ فالفكرة مهما كانت عظيمة، إن لم تُشرح وتُفهم وتُقدَّم بلغة العقل والوجدان، تبقى غريبة عن النَّاس، بعيدة عن واقعهم، وقد تُرفض قبل أن تُفهم، ويُعادى الحقّ بسبب جهل لا عناد.
المعرفة إذًا هي البوَّابة الأولى للقبول؛ فهي التي تفتح أبواب العقول وتوقظ في الإنسان ضميره الباحث عن الحقيقة، وأمَّا التوضيح الصَّادق للمفاهيم، فهو الطَّريق الذي يصل بين الفكرة وقلب المتلقِّي. ولكن لا يكفي ذلك وحده؛ وإنَّما لا بدَّ من مواجهة ما يُثار حول هذه الفكرة من شبهات وشكوك وتضليل؛ فالقلوب لا تطمئن إلَّا حين تزول عنها الغشاوة، والعقول لا تستقر إلَّا إذا سقطت الحجب بينها وبين النُّور.
وهذا هو المسار الإلهي الذي اختاره الله (تعالى) لأنبيائه ورسله (عليهم السلام)، فلم يحملوا رسالاتهم على أنَّها أوامر قهريَّة، ولم يفرضوها على النَّاس بالقوَّة أو الإكراه؛ ولكن كانوا نماذج للرَّحمة والعقلانيَّة، قدَّموا دعوتهم بالكلمة الطيِّبة والحوار الهادئ، وفتحوا صدورهم للمخالف، وواجهوا الاعتراضات بالتَّبيين والحكمة، فكان خطابهم إلى العقل قبل العاطفة، وإلى الضَّمير قبل اللسان.
وسار خاتم الأنبياء محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) على هذا الدَّرب، فكان المعلِّم، والمربِّي، والمصلح، والمجاهد بالكلمة والقدوة. لم يرفع سيفه قبل أن يزرع في النُّفوس نور الفكرة وصدق الرِّسالة، ولم يطلب من النَّاس أن يؤمنوا قبل أن يفهموا، وصبر على أذاهم، وربَّى النُّفوس على التَّوحيد، وصحَّح المفاهيم المنحرفة، وبيَّن أنَّ الإسلام منهج حياة، ورسالة عدل ورحمة، فمهَّد بذلك الأرض لقبول الدِّين، ورسَّخ الإيمان في القلوب، وجعل من الأمَّة أمَّة تنبض بالمعرفة، والحقِّ، والكرامة.
ومن بعد استشهاد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، تسلَّم أهل بيته الطاهرون (عليهم السلام)، ومعهم ثلَّة من الصحابة الصَّادقين، مسؤوليَّة مواصلة المسيرة، فكانوا أمناء على الرِّسالة، ودعاةً بالحكمة، ومجاهدين بالكلمة والموقف، فلم يدَّخروا وسعًا في ترسيخ الدِّين في القلوب، وتعميق معانيه في العقول، حتَّى صار الإسلام نهجًا في حياة النَّاس، يهذِّب النفس، ويبني مجتمعات قائمة على العدل والمعرفة.
وقد امتدَّ هذا الجهد المبارك عبر العصور، فلم تخلُ حقبة من الزَّمن، ولا بقعة من الأرض، من وجود رجال ونساء نذروا أنفسهم للدِّين، ووقفوا سدًّا منيعًا أمام موجات التَّحريف والانحراف والتَّزييف؛ أولئك المؤمنون الواعون حملوا شعلة التَّبليغ والإصلاح، فصانوا الأمانة، وأوفوا بالعهد، وواجهوا الطُّغيان بالعلم، والضَّلال بالبصيرة، والتَّخاذل بالصَّبر والثَّبات. وبفضلهم، ظلَّت الرِّسالة نقيَّة، والهداية مستمرَّة، حتَّى وصلت إلينا كما أنزلها الله (تعالى)، محفوظة في أصولها، عالية في مبادئها، متألقة في أنوارها.
وهذا النُّور الذي بين أيدينا اليوم، وما نملكه من وعي وهداية، ويقين وإيمان، ليس إلَّا ثمرةً طيِّبة غرستها تلك القلوب التي أخلصت لله (سبحانه)، وضحَّت من أجله، وسهرت الليالي لتصنع الفجر لأمَّةٍ نامت على وسائد الغفلة.
وفي السِّياق نفسه، كان الشَّعب العراقي -في مرحلة ما بعد الاستعمار- يعيش فراغًا كبيرًا في المعرفة الدِّينيَّة والثَّقافيَّة؛ إذ خلَّف الاحتلال واقعًا مزريًا غابت فيه مقومات الوعي، وسادت فيه الأميَّة، وتراجعت فيه القيم، وتقطَّعت الصلة بين النَّاس وبين منابع الإيمان الأصيل. وفي خضمِّ هذا الظَّلام، كانت الحاجة ماسَّة إلى من يعيد توجيه البوصلة، وينهض بالمجتمع من غفوته، ويجسر الهوة بينه وبين دينه وهويته.
وهنا برز الدَّور الرِّيادي لسماحة المرجع الدِّينية الراحل السيِّد محمَّد الشيرازي (قدّس سره)، الذي انطلق بحركة إصلاحيَّة تبليغيَّة واعية، تُخاطب النَّاس، وتستهدف أعماقهم، فبدأ بزراعة الوعي وبناء الإنسان، مستنهضًا العقول، ومحركًا ضمائر الأمَّة نحو دينها وقيمها. لم يكن مشروعه يقتصر على خطاب ديني تقليدي؛ وإنَّما كان نهضة شاملة تمسُّ الفكر والسلوك، وتعيد للناس ثقتهم بأنفسهم وبإسلامهم، في مواجهة آثار التَّجهيل التي خلَّفها الاستعمار، وفتح أمام الشَّعب العراقي أبوابًا جديدة لفهم الدِّين والعمل به، بعد أن كادت تلك الأبواب توصد تمامًا في وجهه.
لقد تعمَّد الاستعمار أن يترك الشَّعب هشًّا فكريًّا، ضعيف الارتباط بدينه، كي يسهل تطويعه وقيادته، فتفشى الجهل حتَّى صار عقبة كبرى أمام نهضة الأمَّة. وهنا برز دور الإمام الشيرازي، فهبَّ كالسراج في ليلٍ مظلم، ينير الدَّرب، ويوقظ العقول، ويزرع في النُّفوس روح الوعي والإيمان، مستنهضًا بذلك طاقات الشَّعب العراقي ليعود إلى أصالته وقيمه ودوره الحضاري.
وعندما انتهى عهد النِّظام الملكي في العراق، وحلَّت محله الحكومات الانقلابيَّة المتعاقبة، لم يكن التَّغيير الذي شهده الشَّعب تغييرًا جوهريًا في مضمونه؛ وإنَّما كان انتقال سلطة من يد إلى يد أخرى، من دون أن تمسَّ يد الإصلاح الجاد جذور المشاكل التي كان يعاني منها المجتمع، وعلى رأسها مشكلة الجهل والفراغ الثَّقافي والدِّيني؛ فقد تجاهلت تلك الأنظمة العسكريَّة، بمختلف تسمياتها وشعاراتها، الاحتياجات الحقيقيَّة للشعب، وركَّزت كلَّ جهدها على ترسيخ قبضتها السياسيَّة وتقوية نفوذها، معتبرة الشَّعب أداة يمكن توجيهها أو تهميشها حسب مقتضيات السُّلطة ومصالح النُّخبة الحاكمة.
ولأنَّ هذه الأنظمة كانت تخشى وعي الجماهير وتتحسس من يقظة العقول، فإنَّها تعمَّدت، في كثير من الأحيان نشر التَّجهيل بصورة منهجيَّة. وفتحت غطاء الشعارات الرنَّانة والكلمات العاطفيَّة عن الحريَّة، والسِّيادة، والكرامة، وكانت تمارس في الواقع تزييفًا للوعي، وتلميعًا لصورة الحكم القائم، وصرفًا للأنظار عن القضايا الجوهريَّة، عبر وسائل إعلام موجّهة وخطب جماهيريَّة مليئة بالوعود الخالية من المضمون.
لقد سعت هذه الحكومات إلى تسويق مشروعها السلطوي من خلال اللعب على مشاعر الجماهير؛ لكنَّها لم تزرع فيهم وعيًا حقيقيًا، ولم تُعنَ ببناء الإنسان فكريًا أو أخلاقيًا، وكرَّست نوعًا من الانقياد الأعمى للمؤسسة الحاكمة، حتَّى صار التَّهليل للحاكم بديلًا عن المطالبة بالحقوق، والانقياد للأوامر بديلًا عن التَّفكير الحر، وكلُّ ذلك جرى على حساب بناء مجتمع واعٍ، قادر على النُّهوض والنَّقد والمشاركة الحقيقيَّة في صناعة مستقبله.
عندما تصدَّى الإمام الشيرازي لمسؤوليَّة المرجعيَّة، أدرك منذ اللحظة الأولى أنَّه أمام مسؤوليَّة كبرى تتطلَّب مشروعًا حضاريًا متكاملًا، وكان في طليعة تلك المسؤوليات: رفع مستوى الوعي الدِّيني لدى الشَّعب العراقي، الذي عانى طويلًا من التَّجهيل الممنهج والتَّهميش الثَّقافي. لقد كان يرى أنَّ الأمَّة لا يمكن أن تنهض ما لم يُزرع في وعيها بذور الإيمان العميق والمعرفة الواعية، فصبَّ كلَّ طاقاته وجهوده لتحقيق هذا الهدف النَّبيل.
لم ينتظر أن تتحرَّك المؤسسات من حوله؛ وإنَّما بادر بنفسه، وبدأ عمليَّة شاملة للتثقيف، ابتدأت من التَّأليف والكتابة، ثمَّ تلتها مراحل النَّشر والتَّوزيع، في مسار تعبوي مدروس يخاطب كلَّ شرائح المجتمع. فاختار لغة سهلة قريبة من النَّاس، يفهمها الإنسان العراقي العادي، ويشعر أنَّها تتحدث إليه وتلامس همومه وتطلعاته.
وقد أثمرت هذه الجهود المباركة، فشكَّلت كتبه ومؤلفاته أرضيَّة خصبة لنموّ الوعي الدِّيني، وغرست في النُّفوس مفاهيم الإسلام الأصيل، وشكَّلت شبكة من الأفكار التي جعلت الفرد العراقي أكثر فهمًا لعقيدته، وأشدّ ارتباطًا بمبادئه، وأكثر قدرة على مواجهة موجات الانحراف. وهكذا، كانت كتبه جبهات فكريَّة تقاتل على خطوط الوعي، وتبني الإنسان، وتعيد تشكيل وجدان الأمَّة على أساسٍ من الإيمان واليقظة والبصيرة.
وإلى جانب مهامه المرجعيَّة والفكريَّة، أسّس الإمام الشيرازي منظومة مؤسساتية متكاملة، تتولَّى مهام التَّبليغ وتنظيم الجهود الدينيَّة بطريقة مدروسة ومستدامة، فأنشأ مؤسسات تبليغيَّة ثابتة وأخرى متحرِّكة، جمعت بين التَّنظيم والمرونة، وبين العمل الميداني والتَّخطيط الاستراتيجي، لتصل الرِّسالة إلى أوسع رقعة جغرافيَّة ممكنة، داخل العراق وخارجه.
أما المؤسسات التبليغيَّة الثَّابتة، فقد شكَّلت النواة الأساسيَّة للعمل التوعوي طويل الأمد، وفي طليعتها:
1. هيئة إرسال المبلغين في الدَّاخل:
وقد تولَّت هذه الهيئة مسؤوليَّة تشخيص المناطق التي تفتقر إلى وجود مبلغين وعلماء دين، خاصَّة في القرى والنَّواحي النَّائية التي طالها الإهمال؛ فكانت ترسل المبلغ المناسب للاستقرار في تلك المناطق، وتؤمِّن له احتياجاته المعيشيَّة من خلال التَّبرعات التي تجمعها، ممَّا أتاح للمبلغين أن يتفرغوا لأداء رسالتهم من دون قلق مادي، وفتح بابًا أمام نشر الوعي في أماكن كانت بعيدة عن دوائر التَّوجيه الدِّيني.
2. هيئة إرسال المبلغين إلى الخارج:
وهي هيئة متخصصة بالتَّبليغ في الدول الإسلاميَّة، وخصوصًا في المجتمعات المسلمة في أوروبا؛ حيث الشعور بالحاجة إلى خطاب ديني أصيل وعميق. وقد تولَّت الهيئة مسؤوليَّة إرسال المبلغين إلى تلك الدول، وتحمَّلت نفقات سفرهم وإقامتهم، خاصَّة في المناسبات الدِّينية المهمَّة كشهر رمضان والأعياد. وكان هدفها إقامة الشَّعائر، وبناء جسور تواصل ثقافي بين الجاليات المسلمة ودينهم، وسط بيئات غربية.
3. هيئة شباب التَّبليغ:
وهي واحدة من أبرز المبادرات التي تجلَّت فيها رؤية الإمام الشيرازي للشباب وأنَّهم محور رئيسي في عمليَّة التَّغيير. وقد ضمَّت هذه الهيئة نخبة من الشَّباب الجامعيين الواعين، الذين تفاعلوا مع هموم الأمَّة وقضاياها، وتحرَّكوا في صفوف الطَّلبة لنشر الفكر الدِّيني بأساليب حضاريَّة معاصرة. وقد أسَّست الهيئة صندوقًا ماليًا خاصًا بتمويل مشاريعها، ممَّا منحها استقلاليَّة ومرونة في الحركة. ومن أبرز نشاطاتها: إقامة الاجتماعات الدينيَّة والحوارات الفكريَّة في الجامعات، وطباعة الكتب الدِّينية وتوزيعها في أوساط الطلبة، ممَّا ساعد على خلق بيئة فكريَّة نشطة داخل الحرم الجامعي، وجعل الدِّين حاضرًا بلغة يفهمها الجيل الجديد.
وهكذا، كانت هذه الهيئات تجسيدًا عمليًا لفكر الإمام الشيرازي في ضرورة الانتقال من الفرديَّة إلى العمل الجماعي، ومن التَّوجيه العابر إلى التَّأثير العميق المستدام، فغدت هذه المؤسسات أدوات فعَّالة في صناعة الوعي، وبثّ الروح الإسلاميَّة في أوساط مختلفة، ومواجهة حملات التَّغريب التي استهدفت المجتمع في داخله وخارجه.
التبليغ السيار:
ومن الأساليب الإبداعية التي اعتمدها الإمام الشيرازي في نشر الوعي الدِّيني وتوسيع رقعة التَّبليغ؛ التبليغ السيَّار، وهو نوع من التَّبليغ الميداني المتحرِّك الذي يستخدم وسائط نقل مجهَّزة بمكبرات الصَّوت، والكتب، والكتيبات، والمواد التَّثقيفية المتنوعة، لتصل الرِّسالة الإسلاميَّة إلى المناطق المحرومة والبعيدة، والتي غالبًا ما كانت مغفلة من جهود التَّوجيه الدِّيني. وقد مثَّل هذا النَّوع من التَّبليغ نقلة نوعية في إيصال الصَّوت الدِّيني إلى القرى والأرياف التي لم تكن تحظى بحضور مستمر للمبلغين أو المؤسسات الدِّينيَّة.
وقد أسّس الإمام الشيرازي لهذا المشروع الحيوي هيئتين متخصصتين في التَّبليغ السيَّار، وكلُّ واحدة منهما تتحرَّك ضمن نطاق جغرافي محدد، لضمان التَّغطيَّة الشَّاملة والمتوازنة:
1. هيئة التبليغ السيَّار رقم (١):
وقد اختُصّت هذه الهيئة بالعمل في القرى والأرياف التَّابعة لمدينة كربلاء المقدَّسة، فكانت تنتقل من منطقة إلى أخرى، خاصَّة في المناسبات الكبرى كزيارة الأربعين وعاشوراء، تنشر الوعي وتبعث الرُّوح الحسينيَّة في النُّفوس. وكانت نشاطاتها تشمل إقامة المحاضرات، وتوزيع المنشورات، وإذاعة الشعارات التوعويَّة عبر مكبرات الصَّوت، بما يلامس قلوب النَّاس ويوقظ وعيهم. ويُذكر أنَّ هذه الهيئة قامت، في إحدى المناسبات، بتوزيع أكثر من خمسين ألف كتاب ديني وثقافي مجانًا على شريحة واسعة من الشَّباب، في خطوة تعبِّر عن مدى حرصها على صناعة جيلٍ مثقف وواعٍ يحمل همَّ الدِّين في قلبه وعقله.
2. هيئة التبليغ السيَّار رقم (٢):
وهذه الهيئة، قد امتد نطاق عملها إلى جميع المحافظات والمدن العراقية، باستثناء كربلاء، لتكون الجناح الثَّاني الذي يُكمِّل جهود الهيئة الأولى. وقد قامت بدور كبير في إيصال المبلغين إلى المحافظات المختلفة، فضلًا عن توزيع الكتب والمنشورات، وإذاعة البيانات والإعلانات التوعويَّة على الأهالي، لا سيما في المناسبات العامَّة والظروف الاستثنائيَّة التي كانت تتطلَّب تفاعلًا جماهيريًا واسعًا مع الرِّسالة الإسلاميَّة.
لقد تحركت هاتان الهيئتان على هيئة قوافل نور في ليل الجهل، تزرعان بذور الوعي في القرى، وتغذِّيان العقول بالمعرفة، وتوقظان في النُّفوس جذوة الانتماء للدِّين والمبدأ، وكان هدفها مشروعًا رساليًّا طويل الأمد، جعل من التَّبليغ السيَّار أسلوبًا حيويًّا في مدِّ جسور التَّواصل بين العلماء والنَّاس، وبين المبلغين والمجتمعات المنسيَّة، ليصبح صوت الهداية حاضرًا في كلِّ مكان، حتَّى في أقصى زوايا البلاد.
المراكز الإسلامية في الخارج:
إلى جانب الهيئات والمؤسسات التَّبليغيَّة التي أسسها الإمام الشيرازي داخل العراق، لم يغفل عن الدَّور الحيوي للمراكز الإسلاميَّة في الخارج، فعمل على إنشاء مراكز إسلاميَّة رصينة في مدن عالميَّة مثل لندن وديترويت ومونتريال ولوس أنجلوس ونيويورك، لتكون منابر نشر الدَّعوة إلى الإسلام، وخاصة بين غير المسلمين، الذين كانوا بحاجة إلى معرفة صحيحة وموثوقة عن دين الإسلام، بعيدًا عن التَّشويه والتَّزييف.
لقد لعبت هذه المراكز دورًا محوريًا في تعريف الجماعات غير الإسلاميَّة بالإسلام، من خلال تنظيم المحاضرات والنَّدوات الثَّقافية، وإقامة الفعَّاليات التي تعرِّف بالحضارة الإسلاميَّة وقيمها السامية، ممَّا ساهم في بناء جسر تواصل حضاري بين الثَّقافات، وفتح أبواب الحوار والتَّفاهم.
ومن المهام التي نهضت بها هذه المراكز أنَّها كانت حاضنة للوعي الدِّيني بين الجاليات الإسلاميَّة المقيمة في تلك المناطق، حيث تعقد الاجتماعات الأسبوعيَّة التي تجمع المسلمين حول قيم دينهم وتعاليمه، وتتيح لهم فرصة التَّجدد الاجتماعي. إلى جانب ذلك، كانت تُنظِّم المهرجانات الدِّينيَّة في المناسبات الكبرى، مثل شهر رمضان وعيد الأضحى، فتُحيي الشَّعائر وتُرسِّخ الانتماء الإسلامي في الغربة.
وقد استخدمت هذه المراكز وسائل الإعلام المتنوعة من نشر إذاعي وتلفزيوني، وصحف ومطبوعات وكتب، لتصل رسالة الإسلام إلى أوسع نطاق، وتواجه الأفكار المغلوطة والمعلومات الخاطئة التي قد تنتشر بين المسلمين وغيرهم، فتُرسِّخ بذلك الوعي والتماسك في المجتمعات الإسلاميَّة في المهجر.
وبهذه الرؤيَّة الواسعة والشَّاملة، أسَّس الإمام الشيرازي شبكة تبليغيَّة متكاملة تمتد من قلب العراق إلى أعظم مدن العالم، لتكون رسالة الإسلام متجددة، وحيَّة في وجدان كلِّ إنسان يبحث عن الحقِّ والنُّور(1).
إنَّ مسيرة الإمام الشيرازي في خدمة الدِّين والوعي هي نموذج متكامل لمسؤوليَّة الإنسان المؤمن اتِّجاه أمَّته ومجتمعه، ورؤية رائدة في كيفيَّة بناء الوعي الدِّيني والتَّثقيف الشَّامل من خلال التَّخطيط المنهجي والمؤسسات المتكاملة. وقد أثبت أنَّ الارتقاء بالأمَّة لا يكون إلَّا بسواعد الشَّباب، وقلوب المؤمنين، وأذهان المستنيرين، الذين ينقلون الرِّسالة بحكمة وبساطة، ويواجهون العقبات بعزيمة وإصرار.
إنَّ المؤسسات التَّبليغيَّة التي أسسها، والمراكز التي أنشأها، والكتب التي كتبها، وكل خطوة قام بها كانت لبنة في بناء صرح الإيمان والوعي الذي ما زلنا نستمد منه القوَّة حتَّى اليوم. وهذا يبيِّن أنَّ الرِّسالة لا تتوقف عند شخص؛ بل تستمر بأمانة حملة الرِّسالة، الذين يواصلون النِّضال من أجل أن يبقى نور الدِّين متقدًا، وقلوب النَّاس متَّحدة على طريق الحق.
فلنستلهم من هذه المسيرة المباركة العزم والهمة، ونمدّ أيدينا إلى بناء مستقبل أمَّتنا، من خلال زيادة الوعي، ونشر المعرفة، وحماية ديننا من كلِّ جهل وتزييف، حتَّى تبقى أمَّتنا قويَّة، وقلوبنا عامرة بالإيمان، وعقولنا مشعة بالنُّور والهداية؛ لأنَّ ذلك هو السَّبيل الحقيقي للنهوض، والمحافظة على الهويَّة، وتحقيق الكرامة والحريَّة الحقيقيَّة في ظلِّ عالم سريع التغيُّر وصعب العقبات (2).