حرب المعلومات على هامش حرب غزة ولبنان

ابراهيم العبادي

2024-10-29 05:32

لم تخل حرب من الحروب التي خاضها العرب مع الكيان الصهيوني من انقسامات في الموقف السياسي رسمياً وشعبياً، إن لم يكن اثناء الحرب فبعدها، الاجماع مفقود دائماً ما خلا استثناءات نادرة، سبب ذلك اختلاف الرؤى والستراتيجيات والمصالح والأفكار والأهداف

والسبب الأكبر قد يكون الاختلاف الفاحش في تقدير الموقف وقراءة الواقع السياسي والعسكري موضوعياً، دخول الحرب يستلزم سرديَّة عالية الاقناع حتى وان كانت حرباً دفاعيّة، فالمعتدي الصهيوني كثيراً ما استفاد ووظف الأخطاء السياسيّة العربيّة ليبني خطاباً حربياً وسردية سياسية كان ناجحاً في تسويقها داخلياً وخارجياً رغم عدوانيته الصارخة وهمجيته غير المسبوقة وغطرسته المعهودة واستهزائه بالقانون الدولي والمنظمات الامميّة. الموقف العربي غالباً ما عانى من صعوبات في تسويق سرديته محلياً قبل ان يكون خارجيا، ولهذا الامر مشكلاته المستدامة، أهم هذه المشكلات كان وما زال احتكار المعلومة او الفهم عند صانع القرار، بحيث تبقى مسببات الموقف مجهولة أو غامضة لدى الجمهور والنخب على حد سواء، ثمّ تأتي النخب بحسب انحيازاتها لتقوم بعملية ترويج وتفهيم وتسويق وترميم الرواية الرسمية للحرب، أو معارضتها وتشكيل موقف مضاد منها عاطفياً ومعرفياً. حصل ذلك في حرب عام1967، التي سميت نتائجها بالنكسة أو نكسة حزيران وهي كانت نكبة بأدنى توصيفاتها، بعدها بسنوات نُقل عن المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي، الازهري الشهير قوله إنه سجد لله شكراً بعيد الحرب، كأنه اراد القول ان الخسارة العسكرية قد تكون مقبولة -رغم فداحتها واثارها المدمرة - مادامت ستطيح بالمشروع السياسي للنظام الحاكم. وكان يومها المشروع القومي الناصري يأخذ بزمام العرب .

راهناً لم يسبق ان انقسم الشارع العربي انقساما كبيرا كما انقسم ازاء الحرب الجارية في غزة ولبنان، وسائل التواصل الاجتماعي فضحت المواقف الفرديّة والحزبيّة، وتجاوزت ردود الافعال حدود المسؤولية الاخلاقية والانسانية، بلغت حدَّ التشفي والاساءة والرغبة في تحقيق الانتقام على يد من كان عدواً حتى الأمس القريب، للكثير ممن يحتفون بالتفوق العسكري الاسرائيلي حالياً!!!!!؟، سبب ذلك أن الطرف الذي قاد الحرب يعيش خصومة بالغة الحدة مع جمهور عربي كبير جداً .

بطبيعة الحال لهذه المواقف دوافعها النفسية والسياسية المتعلقة بخيارات الفرد العربي وحساباته ومواقفه من التيارات والقوى السياسية التي تتقاسم جبهتي الصراع. ولكل حرب نتائجها وارتداداتها الفكريّة والسياسيّة.

حرب حزيران دشنت أفول الناصريَّة والشعارات القوميَّة، وحرب 1973 انهت مقولة الصراع الدائم مع الكيان الاسرائيلي وحقق الأخير اختراقاً تفاوضياً ادى الى كامب ديفيد وانتهت دول الطوق العربي الى التفكير بمصيرها ومستقبلها منفردة رغم التنسيق الشكلاني، حرب عام 1982 التي شهدت احتلال لبنان ومحاصرة بيروت، ادت الى خروج المنظمات الفلسطينية من لبنان وتراجع مشروع التحرير الوطني وظهور البديل الاسلامي الشيعي (حزب الله) كمقاومة واعدة قوية وصلبة بمحركات عقائدية مستوعبة ومتجاوزة للأخطاء العسكرية والسياسية التي وقعت بها الانظمة والتيارات التي سبقتها، حرب عام 2006 كرّست معادلة ردع متبادل مع اسرائيل دامت لمدة 18 عاما، وصار الخصم العنيد لدولة الاحتلال أحزاب وحركات مقاومة ايديولوجية عقائدية (فواعل غير دولتيَّة) تعد بزوال اسرائيل والصلاة في القدس الشريف.

لكن الخصومة التي اتّسعت ضد حركات المقاومة الاسلامية، لم تقرأ بعين نافذة ونظرة عميقة، الحروب ضد دولة الاحتلال تحتاج الى تعبئة كبيرة واستعداد شعبي وقومي شامل، حركات المقاومة دخلت حرب عام 2023-2024 وهي لا تواجه خصومة النظام السياسي العربي فحسب، بل خصومة جمهور واسع كان -على الأقل - يمثل ذخيرة عاطفية واعلامية كون الجرح الفلسطيني قضية عربية اسلامية مركزية كما كان يقال. لكن الشارع انقسم بسرعة وانقسمت معه آراء النخب بشكل لافت وملاحظ في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي ما جعل طرف المقاومة يجهد كثيراً لبناء سردية يحافظ فيها على جمهوره من التقويض. صار الشارع العربي يعيش حرب دلائل وبراهين وسيناريوهات ومعلومات، وفي ذروة الحرب سعّر طرف الخصومة المذهبيّة والايديولوجيّة والسياسيّة مقترنة بسوء الفهم والتحيّز، كان على الجهة المقابلة تحيّز من نوع آخر، فشرعية المواجهة وقداسة (الجهاد) ضد العدو الاسرائيلي كانت تستدعي موقفاً يقدم العواطف على الفهم، والمشاعر الوجدانيّة على التساؤلات المعرفيّة، وتركزت المعركة على ضمان تماسك الرأي العام المؤيد والمناصر، وصارت وسائل التواصل الاجتماعي مصدر المعلومات التي تشكل الرؤية والموقف وتعطي للبحث والدراسة مضموناً غير واقعي أحيانا، في ظل الفلترة (المعلوماتية) الجارية بين الجبهتين المتصارعتين وغدت المعركة معركة معلومات وتحليلات اعلامية قبل ان تكون معركة ميدان، صار التنافس المعلوماتي سلاحاً فتاكاً، فمن ينجح في ترويج خطابه ويومياته وسرديته ينجح في كسب التعاطف والتأييد، وبما ان العدو يتفوق تكنولوجيا وتقنيا وتسليحيا فإن خطابه وجد من يروّجه ويتقبّله ويردده ويؤمن به، حتى وان كان على حساب (الأمة) وثوابتها ومقدساتها .

المشكلة الأكبر في ترويج (الفهم المسطح) او الساذج للصراع، السذاجة التي انتجتها حرب المعلومات والتقنيات التي جعلت التطبيع يساوي السلام والازدهار وصارت اسرائيل مقبولة لدى هذا الفريق العربي رغم قباحتها، وجعلت المقاومة الاسلامية تخسر جمهوراً مهماً لأن خطابها اعتمد العاطفة الاسلامية للرد على الخصوم، ودفعت النخبة المقاوِمة الى استخدام اسلحة الاسكات لوصف من يتساءل ويستفهم ويريد أن يعرف، (لماذا حصل الذي حصل؟ والى أين تسير الامور؟)…. بأنه من المرجفين. دونما حساب بأن شرعية الموقف تنبني دائماً على الفهم والاقناع والاقتناع .

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي