القروض وازمة بناء الدولة
محمد الكعبي
2024-10-28 06:04
تمّر المنطقة بصراع صفري ليس له مثيل، حيث القتل والإقصاء والدمار متزامناً مع التقدم السريع بشتى المجالات والتطور التكنلوجي والثقافي والسياسي والاقتصادي، مما يجعلنا في خضم الصراع وليمكن التنصل عن مسؤولياتنا بحكم موقعنا الجغرافي وما تمتلكه المنطقة من ثروات والتي غالبا ما تكون محط أنظار الطامعين.
إن التخلف والجهل والفقر والمرض والانشغال بالتوافه والسياسات التخبطية لبعض القيادات والنخب السياسية والمشاريع غير المدروسة واللامسؤولة أدى إلى الكثير من الكوارث على مستوى الفرد والمجتمع بشكل كامل، فضلاً عن التراجع في عمل الحكومات المتعاقبة، مما أدى إلى الصراع من أجل الاستيلاء على السلطة وبسط النفوذ وفرض الإرادات بشتّى الوسائل والتي بدورها فتحت المجال لدخول العامل الخارجي ليتحكم بجزء كبير من مقدرات الشعوب حيث تعددت الولاءات والتوجهات والانتماءات للداخل والخارج.
مما فتح المجال للآخرين من بسط إرادتهم على الفواعل الداخلية والتي هي بالأصل ضعيفة ومترددة ولا تمتلك القابلية على التفكير والنهوض والقوة والقدرة على إدارة الأمور بشكل جيد وهذا نتيجة فقدان البصيرة والحكمة والشجاعة والإدارة الناضجة والإرادة القوية الصادقة وعدم امتلاكها استراتيجية وطنية شاملة والإنفرادية بالقرار والقيادة المتعددة المبعثرة.
فأغلب النخب همها الوحيد الإستغناء والحصانة حتى بات الصراع بين الأقطاب مخزي وينم على الدناءة والخسّة فكل الوسائل القذرة حاضرة في هذا الصراع من قبيل التكفير والتشهير والإقصاء والتهميش والقتل، حيث يجعلنا أمام منعطف خطير حتى باتت المناصب العليا والوسطى حكراً على مجموعة خاصة، وإن كل مؤهلاتها الولاء والطاعة للحزب أو للمسؤول وليس للوطن.
فضلاً عن الفساد والمحاصصة التي نخرت البلد مع تردّي الخدمات في أغلب مفاصله ومازالت السلسلة طويلة من الفشل والتخبط حتى وصلت النوبة إلى القروض الخارجية والداخلية الممنوحة من الدول والمنظمات الدولية والبنوك والشركات بحجة الإعمار والتنمية والتي تجعل الدولة مقيدة ومحكومة بسبب القيود والقوانين المفروضة عليها من قبل المقرضين والتي في الغالب يصعب سدادها مما يفقد الدولة قدرتها وتصبح أسيرة مما يجعلها فاقدة لسيادتها ويفسح المجال إلى التحكم بمصير أمة بأكملها وتخضع لمرادات تلك الانظمة والتي بدورها تلعب لعبتها الحقيرة من فرض أجندتها وتحكمها بكل صغيرة وكبيرة مقابل مكاسب تمنح لهذا الرئيس وذاك المسؤول ولحزبه وحاشيته.
وإذا حاولت حكومة ما الاعتراض على سياسة تلك الدول أو الاعتماد على قدراتها والتخلي عن الهيمنة الخارجية فإنها تتعرض إلى عقوبات ومشاكل كثيرة قد تؤدي إلى نتائج مؤلمة وربما يصل الدور إلى تحريك الإعلام والمنظمات والهيئات والمؤسسات الجماهيرية الممولة من خارج الحدود والتي تعمل بعناوين مختلفة ودورها الفاعل في تحريك الشارع ضد الحكومات المناوئة للغرب لإسقاطها أو إجبارها على اتخاذ قرارات لا تصبّ بمصلحة الشعب بل لتحقيق مصالح المقرضين.
وهذا الأسلوب قد نجح في إيران في زمن حكومة محمد مصدق، ففي عام 1950م، عندما اختير محمد مصدق رئيسا للوزراء وأدخلت إدارته إصلاحات اجتماعية وسياسية واسعة مثل الضمان الاجتماعي وتنظيم الإيجارات واستصلاح الأراضي ولكن تبقى حركة تأميم صناعة النفط الإيرانية هي النقطة الأبرز في سياسة حكومته حيث كان البريطانيون يسيطرون عليها منذ 1913م، من خلال شركة النفط الأنجلو-إيرانية (APOC / AIOC) (سميت لاحقاً باسم شركة النفط البريطانية أو بي بي)، تسببت قراراته في تأميم شركات النفط في إزاحته في إلانقلاب عليه يوم 19 اغسطس 1953م، بعد إجراء استفتاء مزور لحل البرلمان، فقد طلبت المخابرات البريطانية مساعدة CIA الاميركية في تنفيذ الانقلاب فأسقطت حكومة مصدق وسجن ثلاث سنوات ثم أطلق سراحه، إلا أنه أستمر رهن الإقامة الجبرية حتى وفاته سنة 1967م.
حيث حركت بريطانيا وأميركا رجالاتها وعملائها وجواسيسها في الداخل الإيراني باسم الحرية والحقوق وعدم قدرة مصدق على إدارة الدولة فحشدت الشارع ضد حكومة مصدق مما اضطره إلى التخلي عن الحكومة وبقي تحت الإقامة الجبرية، ونجحت التجربة ايضاً في إندونيسيا وبنما زمن الزعيم (عمر توريخوس) والعراق في زمن عبد الكريم قاسم وغيرها من الدول والتي تسمى حسب المنظور الغربي والأميركي أنها دول مارقة فكان أسلوبهم الجديد يتمحور بإغراق الدول بالديون والمنح بحجج متعددة ومتنوعة.
متزامناً بتأسيس المنظمات والهيئات والمؤسسات العاملة في داخل المجتمعات والتي في الغالب تكون أداة طيّعة لتلك الأنظمة والدول الكبرى مع تمكين العملاء من السلطة وبهذه الطريقة تضمن ولاء القيادات العليا فضلا عن منحهم الحصانة والسلطة والأموال وتحجيم دور الكفاءات والخبرات والوطنيين ودعم المليشيات وتفعيل دور الإعلام والمنظمات والنشطاء وتفعيل تجارة المخدرات والسلاح والبغاء مع إشغال الناس بالتوافه والصراعات الداخلية والاعتماد على الاستيراد وتعطيل شبه تام للقطاع الخاص وتعطيل الزراعة والصناعة وتدمير التعليم والصحة وتحجيم دور القانون والقضاء .
إن مشكلة القروض الخارجية تكمن في زيادة معدلات الجهل والفقر والمرض فضلاً عن الآثار السلبية على التعليم والصحة والأمن، حيث تصبح الكثير من تلك الحكومات ضعيفة خاضعة تماماً وتابعة للدائنين فتكون النتيجة الفشل والتخبط وعدم القدرة على تسديد تلك القروض وعدم التفكير والنهوض بالواقع وتعرقل حركة التطور وتعيق العمل نحو الأفضل.
إن الحكومات التي لا تمتلك منظومة إدارية متكاملة ورصينة وليس لها القدرة على وضع الاستراتيجيات الفاعلة ولا رسم خارطة طريق ناضجة ولا تسعى لتفعيل القطاع الخاص ولا تعتمد على الكفاءات الوطنية ولا تفتح المجال للاستثمار الداخلي أو الخارجي المدروس وفق مصلحة البلد بعيداً عن التدخل الخارجي فإنها تبقى في آخر سلّم الحضارة.
ينبغي تعدد مصادر الدخل القومي والاستفادة من الموارد الموجودة في البلد وعدم الاعتماد على مصدر واحد كالنفط، مع وجود مؤسسات فاعلة وبيانات تفصيلية متكاملة وتفعيل النظام الرقابي والقانوني والضريبي وتمكين العقول المنتجة والفاعلة فضلاً عن وجود حكومات وطنية منتخبة مع استقلالية القضاء والفصل بين السلطات والعمل على التوعية الجماهيرية وتطوير العمل المؤسساتي عندها نكون قد وضعنا الخطوة الأولى على الطريق الصحيح وإلا ستبقى الشعوب أسيرة الآخرين .