أسبوع في يريفان

د. جليل وادي

2024-08-20 04:07

ما ثلاثة أشياء لفتت نظرك في البلد الذي سافرت اليه؟، هذا سؤال دائما ما أتبادله مع بعض الأصدقاء بعد انتهاء رحلة كل منا، وهو ما طرحه عليّ أصدقائي في الليلة نفسها التي عدت فيها حتى انهم لم يتركوا لي مجالا لاسترجاع أنفاسي، وأخذ قسط من الراحة بعد تعب السفر والانتظار في المطارات، وما يتبعها من اجراءات، خصوصا تلك التي يطلب منك فيها نزع حذائك وحزام بنطالك، وفي أحيان فتح حقائبك التي كثيرا ما تكون مكتظة بمستلزمات السفر، لاسيما اذا كان سفرك لبلد يختلف مجتمعها عنك في الدين، فتتزود بما تراه ضروريا.

ما لفتني خلال اسبوع أمضيته في العاصمة الأرمينية يريفان شعبها الودود الخلوق، فما أن تنظر الى وجه أحدهم حتى يبادلك الابتسامة، اما اذا سألته عن مكان ما، يبذل ما بوسعه وبخليط لغوي متعثر ليدلك عليه وان استغرق منه ذلك وقتا طويلا، الابتسامة حاضرة حتى على وجوه رجال الأمن الذين لم يحدث أن اعترضنا أحد وسألنا عن جنسيتنا او بلدنا او ماذا نفعل في هذا المكان الذي نحن فيه مع ان كل ما فينا يكشف عن كوننا غرباء من الوجوه السمر الى طبيعة ملابسنا، باستثناء بعض العوائل التي جمعتنا معها لقاءات سرعان ما تحولت الى صداقات تبادلنا فيها أرقام الهواتف والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي. 

لكن كثير من الأرمينيين لا يعرفون العراق، وعندما نقول لهم: العراق، يقولون: ايران، فنستعين باسم بغداد او اسماء معينة مشهورة، وفي أحيان كثيرة لا تفلح هذه الاستعانة، وهذا من بين أبرز المؤشرات على فشلنا في التسويق الاعلامي لبلدنا.

أخشى أن تكون انطباعاتي التي أكتبها بمثابة ترويج لهذا البلد، وما الضير في ذلك، فالشعب الأرميني يستأهل أن نشيد بأخلاقه وابراز خصائصه التي لمسناها ورأيناها بأم العين، فأرمينيا أرض بكر بالرغم من أصالتها وتاريخها العريق، لم يتلوث مجتمعها بعد.

اذ تحتل قيمة الأمانة المرتبة الأولى في سلم القيم، لم يحدث ان استغلنا أحد، او بالتعبير الشعبي العراقي (قفص) علينا سائق تكسي او صاحب محل او مطعم، بل كانوا أمناء معنا بالمطلق، فعندما تشتري سلعة يعيد لك الباقي من المبلغ لحد أصغر عملة، ويتظاهر أمامك بحسابها بشكل بطيء، ويريك الرقم على الآلة الحاسبة، لكونك غريب وتجهل عملتهم وقيمة فئاتها. 

يحترمون دينك الذي تختلف به عنهم، وهذا ما دفعهم الى نحت بعض القطع الخشبية ورسموا عليها بعض الحيوانات كالخنزير والبقرة والدجاجة لتجاوز عقبة اللغة، فما ان تطلب (شيشا) من اللحم المشوي حتى يعلمك من خلال القطع الخشبية، انه لحم خنزير، لكي لا تتوهم، وهنا تشكره على حسن أخلاقه وأمانته، فيزداد حبك لهم، بينما بمقدوره أن يمرر عليك هذه الأشياء دون أن تدري، كما يمرر بعض باعتنا الكثير من الأشياء غير الصحيحة.

كثيرة هي البلدان الآمنة، لكن قليلة تلك التي تشعرك بالأمان، فهناك فرق بين الأمن والشعور بالأمان، والبلدان العظيمة تلك التي تجعل مواطنيها والمقيمين فيها يشعرون بالأمان، والشعور بالأمان مرحلة متقدمة جدا بالأمن، والوصول اليه يقتضي عملا علميا دؤوبا يبدأ من المدرسة وينتهي بالقانون، وهواة السياحة والسفر يشدون رحالهم دائما للوجهات التي يشعرون فيها بالأمان، ذلك ان السفر يغدو مقرفا عندما لا ينتابك هذا الشعور، ما يفقدك متعته، ويحول دون استرخائك، ويبدو عليك التشنج والقلق، بخاصة عندما تكون برفقة عائلتك، حتى تستذكر مثلنا الشهير (ما اللذة من هذا الفقر؟)، ومع اني زرت مدنا عديدة، الا ان يريفان هي المدينة الوحيدة التي شعرت فيها بالأمان، أتمنى ألا يؤدي الانفتاح السياحي الى تلوث مجتمعها، بما يفقده قيما غدت مثار أعجاب السياح، لم ينته كلامي عن هذه المدينة المفعمة بالبهجة يريفان.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي