الراعي والرعية
القاضي سالم روضان الموسوي
2024-08-11 05:11
قبل أيام استوقفتني حادثة في إحدى الدوائر الحكومية أثارت في ذهني الكثير من علامات الاستفهام عن طبيعة العلاقة بين القيادة وقواعدها الشعبية وكذلك عن طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وهذه الواقعة لم ينحصر حدوثها في دائرة واحدة بل يوجد منها الكثير ففي احد الأيام الماضية التي اشتد فيها برد الشتاء تم تشغيل المدافئ بكافة أنواعها الكهربائية والنفطية وسواها، وفي الدوائر الحكومية استنفرت الجهود لإعداد هذه المدافئ وتم وضع أفضلها وأحسنها في غرف المدراء والمسؤولين الكبار وما بقى منها يوزع على سائر الموظفين، وكان رئيس إحدى الدوائر الذي تخلو غرفته وقاطع إدارته من المراجعين يحتوي على كل شيء متوفر في الدائرة حتى لو لم يكن بحاجة إليه وإنما حبه على الاستحواذ على كل شيء ولأنه الرئيس الأعلى لهذه الدائرة، ويترك سائر الموظفين يعانون من نقص هذه الحاجة.
وفي موسم الصيف الماضي تم تزويد هذه الدائرة بمجموعة من المكيفات الحديثة فكان لرئيس هذه الدائرة أن يستحوذ على الحديث منها وإرسال القديم إلى الموظف الذي لم يكن لديه مكيف للهواء، وقبل الموظف ذلك الأمر على الرغم من ان غرفته تعج بالمراجعين في ظل ظروف الصيف القاسية، وعندما حل موسم الشتاء البارد كان لهذا المكيف القديم امتياز التشغيل البارد والحار وفرح ذاك الموظف وقام بتشغيل التدفئة من المكيف مستغنياً عن طلب تزويده بمدفئة كهربائية لان أعدادها كانت قليلة وتم تزويد غرف المسؤولين الكبار في الدائرة فقط، وعند بلوغ مسامع رئيس الدائرة ان المكيف القديم يحتوي على منظومة التدفئة وان مكيفه الحديث لا يحتويها قام بتكليف العمال بإعادة المكيف القديم إلى غرفته على الرغم من كون الغرفة مزودة بمدافئ كهربائية وزيتية وترك ذاك الموظف دون جهاز تدفئة.
هذه الواقعة افرزت العديد من النتائج المؤثرة في رسم العلاقة بين التابع والمتبوع وكذلك بين الموظف الحكومي القيادي و بين ابناء الشعب مثلما تكون بين أعضاء البرلمان وقواعدهم التي انتخبتهم والتي أرى منها على وفق ما يلي :-
1. إن هذا المسؤول (رئيس الدائرة) يمثل نموذج حي على سلوك من يتولى الإدارة العليا في المؤسسات الحكومية والتي تتجسد في حب الذات والاستحواذ على كل شيء بمقابل عدم إعطاء ما يستحق الآخر من حقوق، مما أدى إلى الخلل في توازن العلاقة بين الموظف ورئيسه في العمل وكذلك بين الشعب وقيادته.
2. إن هذا المسؤول لم يعطي الأمر بالاستحواذ على الجهاز إلا لأنه رئيس الدائرة أي بصفته الوظيفية والموظف لم يمتثل له إلا لأنه رئيسه في العمل وهذا يدل على ان هذا المسؤول لم يحترم مبادئ الأخلاق المهنية في عمله، لانه لا يختلف عن هذا الموظف إلا بحدود الصلاحيات الممنوحة له، وهم خارج أسوار الدائرة متساوون كأفراد ورعية أمام الله وأمام القانون، كما إن هذا السلوك يمثل ميل نحو تأسيس طبقة متسلطة فوقية منعزلة عن الرعية.
3. هذا المثل يقودنا إلى الحالة الأوسع المتمثلة بالإدارات العليا ومنها مجلس النواب والحكومة وسواها، إذ تجد أن أعضاء هذه السلطات يستحوذون على كل شيء ويتفقون على مصالحهم الشخصية ويختلفون في مصالح الناس الحيوية ويعمدون إلى تعطيلها أحيانا، وفي هذه الأيام نجد إن الجميع قد ذهب لأداء فريضة الحج على الرغم من ان بعضهم قد كانوا أدوها لمرتين أو ثلاث إلا أنهم لا يستطيعون مقاومة أهوائهم الشخصية فيعتدون على حقوق الآخرين بحجب الأعداد المخصصة لعامة العراقيين الذين يعانون من الحرمان من فرصة الذهاب إلى بيت الله الحرام.
4. هؤلاء المسئولون حينما يمارسون الاستحواذ والانتفاع بما لم يتوفر للمواطن إنما يمارسونه بأوصافهم الوظيفية وليست الشخصية، إذ لو جردتهم من وظائفهم لوجدتهم لا يستطيعون أن ينالوا ولو جزء مما هم فيه وإنما وظائفهم ومواقعهم هي التي تغدق عليهم العطايا.
5. تناسى هؤلاء إن المواطن العادي هو الذي أتى بهم إلى مواقعهم الحالية وإنهم يدينون بالفضل إليه وهذا هو الجحود والنكران الذي سيسألون عنه يوماً أمام الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله يسال المرء عن جاهه، كما يسأل عن ماله، يقول : جعلت لك جاها، فهل نصرت به مظلوما ؟ أو قمعت به ظالما أو أعنت به مكروبا ؟!. وقال عليه السلام : كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته).
6. لم يقف الأمر عند الاستحواذ على المنافع وإنما عملوا على تعطيل مصالح الشعب ووقفوا مانعاً بوجه تقدمه ومداواة جراحه التي لا زال يلعقها الناجمة عن معاناته طوال السنين العجاف الماضية.
فهذه بعض النتائج التي ظهرت من خلال السلوك العام للقيادات العليا في الدولة وتوجد صور كثيرة لمثل ما ذكرت إلا أن الخلاصة التي وصلت إليها إن هؤلاء قد اثروا حب الدنيا وحب الشهوات وهم من يدعي انه كان مناضل وانه من لحقه الحيف والظلم أبان العهود الماضية، كما أرى إن بعضهم من يمثل الخط الديني قد خالف توجيهات مراجعه الدينية والسياسية التي نهتهم من الذهاب إلى الحج او الانتفاع المادي الذي وصل إلى حد التخمة.
كما أن بعض علماء الاجتماع والسياسة يجدون في هذا التوصيف مؤشر على موت الهيئة السياسية إذ يقول جان جاك روسو في كتابه الموسوم (في العقد الاجتماعي) ص145 (ان الهيئة السياسية كالجسد الإنساني تبدأ الموت منذ لحظة ولادتها وتحمل في ذاتها أسباب هلاكها لكن يمكن ان يكون لكل منها تكوين امتن أو اقل متانة، قادر على المحافظة عليه زمناً يطول او يقصر اذ ان الدولة تكون من نتاج المهارة)، كما ان الدولة حينما تضغط نفسها بمجموعة من الأفراد ويشكلون الدولة دون الشعب فإنها عند ذاك وعلى وفق رأي روسو ايضا (تنتقل من العدد الكبير إلى الصغير أي من الديمقراطية إلى الأرستقراطية)، كذلك يجد إن الحكومة الصالحة هي التي تظهر فيها بعض علامات الصحة ومنها محافظتها على الشعب ورخائه.
أما المنظومة الإسلامية فإنها اشمل وأوسع مما أتى به روسو وغيره من رجال الفكر والسياسة ولا أدرج في هذا الموضع النظريات بل سأذكر بعض الأمثلة على كيفية تعامل قادة الدولة الإسلامية في صدر الإسلام مع الرعية. وفي حديث للرسول الكريم صلى الله علية وآله وسلم (: من ولي عشرة ولم يعدل فيهم جاء يوم القيامة ويداه ورجلاه ورأسه في ثقب فاس)، ففي الواقعة المشهورة التي قبل فيها الرسول الأكرم (ص) يد العامل التي كانت تحفر الأرض يوم أقبل من تبوك، اذ لقيه سعد الأنصاري فنظر إلى يد سعد وقال ما هذا الذي أكتب يديك ؟ فقال : يا رسول الله أضرب بأمر والمسجاة فأنفقه على عيالي. فقبل رسول الله يده وقال : هذه يد لا تمسها النار)، بالإضافة الى انه كان يعمل في بناء الطين مع المسلمين، ولم يملك او يكتنز الأموال ولم يترك منها بعد رحيله من هذه الدنيا، ولنا في الإمام علي (ع) مثل اكبر في أسلوب الإدارة والتعامل مع العامة فانه كان يفترش التراب ولا يترفع عن الناس حتى أصبح يكنى بابي تراب وانه كان يرفع شسع نعله ويخيط درعه بيده ووقوفه أمام القضاء بمواجهة احد أفراد رعيته، وغيرها من الأمثلة التي لو طابقنا مضمونها مع ما يفعله رعاة الأمة وولاة الأمر في هذا اليوم لوجدناهم يبتعدون عن روح القيادة الصحيحة التي أمر بها الله ويقتربون من حياة السلاطين المعروفين بالبذخ والترف التي حطت من قدر الأمة وأبعدتها عن تقدمها الحضاري إلى مصاف الدول المتخلفة.
لذلك ادعوا الجميع إلى استلهام قيم السماء وسير العظماء والعلماء والعمل على خدمة الناس فإنها من أعظم المهام وأنبل الغايات.