زيارة البرزاني لبغداد: تفاهمات استراتيجية عراقيّة وسوريّة وتركيّة
د. جواد الهنداوي
2024-07-07 06:35
تنازُلات تكتيكيّة اليوم بين الدول المجاورة المذكورة من اجل تفاهمات استراتيجية للغد، تفاهمات حُبلى بأهداف سياسية واقتصادية وامنية موعودة وجادة، وقبل ان تُتّوج هذه التفاهمات باتفاقيات مشتركة، استشعرَ بأهميتها وبعدها الاستراتيجي، الكُرد في سوريّة والعراق، وزيارة السيد مسعود برزاني إلى بغداد جاءت في الوقت المناسب في ظل تحركّات وتفاهمات سياسية وأمنية وعسكرية تركية عراقية سوريّة .
الراعي لما يجري بين الدول المذكورة هما إيران وروسيا ولا ثالث لهما. والمتربص لما يجري والمتخوّف من نتائج مما يجري، إمريكا وحلفاؤها اسرائيل واوربا والناتو .
بين الدول الثلاث (العراق، سوريّة، تركيا) مصالح مشتركة ومشاكل مشتركة ولكن يفرقهما ارتباطهما الدولي. تركيا عضو مهم في الناتو وحليف مشاكس لأمريكا، وسوريّة في الاتجاه المُعاكس، والعراق ما بَينَ بَينْ .
والعراق، الذي هو ”ما بَين بين” وبوسطيته، أصبحَ مفصلاً ونقطة ارتكاز لهذه التفاهمات المشتركة، همّهُ ان ينعم و تنعم المنطقة، او على الاقل دول جواره بالامن والاستقرار. لم يعدْ العراق دولة تُبشر بالحروب، وانما دولة تحول دون الحروب، ولم يكْ العراق دولة تمارس “تجارة وسمسرة الحروب ”. دور العراق في أمن واستقرار المنطقة يُزعج ارباب و تجّار الحروب، وفي مقدمتهم امريكا واسرائيل .
العراق مؤهل واكثر من غيره ولعدة اسباب، في امن واستقرار المنطقة. وبيّنا ذلك وبإسهاب، في ندوة نظّمها مركزنا ( المركز العربي الأوروبي للسياسات و تعزيز القدرات في بروكسل) ، بالتعاون مع سفارة العراق في بروكسل، بتاريخ 2023/5/25، وبعنوان ”دور العراق في المسار الاستراتيجي للمنطقة نحو السلام و الاستقرار ” ، وحضرها مستشارون من رئاسة الوزراء في العراق وسفراء عرب وأجانب وآخرون. اليوم يترسّخ هذا الدور وتظهر جلياً نتائجه، ويبشّر بتحولات استراتيجية ومهمة للمنطقة، بتصالح تركي سوري، يقود إلى توافق على ملفّات مهمة، سأذكرها بعد سطور، وقد يتوسّع التوافق او الاتفاق ليضم ايران والعراق وسوريّة وتركيا، ويأخذ دوره وبعده الاقليمي والدولي، ويصبح تجمعا واعدا وعابرا للطائفية والقومية، وذا اهداف اقتصادية وتنمويّة.
ولكن الحذر والخوف من ردود الفعل الأمريكية والاسرائيلية، وكلاهما يعتاشان على الفتن القوميّة والطائفية، وضد اي تجمّع اقليمي او مناطقي، لروسيا او لإيران يدٌ في بلورته او صناعته .
لم تكْ جهود العراق، ومن اعلى المستويات، في بلورة هذه التفاهمات، وليدة اليوم فهي بدأت منذ عام، ولم يتوقع الأمريكان تطورها (واقصد الجهود) ونضوجها، وما أنْ ادركت امريكا نجاح الجهود وقُرب التوافق السوري التركي، حتى بدأت بمشاكسة وازعاج العراق، من خلال تصريحات ومواقف غير وديّة تجاه السلطات القضائية في العراق ،تبناها الكونغرس الأمريكي ،وأخرى تبنتها المرشحة للعمل كسفيرة في العراق.
لا نحتاج إلى كثير من الشواهد والادلة للقول بأن تعاونا عراقيا سوريا إيرانيا تركيا غير مُرّحب به من قبل الادارة الصهيونية في واشنطن وتل ابيب. ولا نظلمُ الادارة الأمريكية حين نصفها بالإدارة الصهيونية، فالرئيس بايدن يفتخر بصهيونيتة حين يقول ” لا احتاج ان أصبح يهودياً كي أكون صهيونيا ” .
ولكن ما علاقة زيارة الرئيس برزاني إلى بغداد، ولقاؤه جميع قادة السلطات الدستورية والسياسين بموسم التفاهمات بين العراق وسوريّة و تركيا؟
ملف الكُرد له بُعده العراقي والاقليمي والدولي، وقد يكون اسهل ما فيه هو ما يَكثُر عنه الكلام والحديث في الشارع وفي وسائل الاعلام وغيرها، واقصد الرواتب والموازنة والتخصيصات الخ… لأنَّ الحلول او انصاف الحلول لهذه المشاكل هي عراقيّة ويمكن الوصول اليها .
ولكن المُعضلة حين يكون لأمريكا أو لإسرائيل يد في الملف ذي البعد العراقي والاقليمي والدولي .
اليوم، تقوم تركيا بعمليات عسكرية متقدمة في شمال العراق وفي اقليم كردستان، والهدف، كما تصرّح تركيا هو محاربة الإرهاب وحزب العمال الكردستاني، وتجري هذه العمليات العسكرية في وقت الوساطة العراقية الفاعلة بين سوريّة و تركيا .
اليوم ايضاً، تقوم تركيا بترتيب حساباتها مع الوجود التركي في شمال سوريّة، وخاصة ”قسد“، وهي القوات المدعومة من امريكا، والتي تسعى إلى انفصال او حكم ذاتي في شمال سوريا، وهذا ما لا تريده تركياً اطلاقاً، وهذا ايضاً قاسم مشترك بين سوريّة وتركيا وحتى ايران .
سيجمع العراق وسوريّة وتركيا و ايران هدف كبير ومشترك، ألا وهو محاربة الإرهاب، ولكن لكل طرف تعريفه الضيق او الواسع للارهاب. تركيا تحارب حزب العمال الكردستاني في سوريّة والعراق باعتباره منظمة ارهابية، والعراق يتضامن ويتفاعل مع تركيا في هذا الأمر، ويعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة في العراق ويتعارض وجودها مع الدستور العراقي، وهذا هو موقف أربيل ايضاً. لكن تركيا دعمت، وفي طريقها إلى التخلي عن جبهة النصرة وفصائل مسلحة في شمال سوريّة، والتي تراها سوريّة وكذلك العراق و إيران مجاميع ارهابية، لا تختلف عن داعش .
الرئيس البرزاني، ادركَ بلا شك، التحولات السياسية الاستراتيجية القادمة في المنطقة وبرعاية روسيّة ايرانية، والتي تنّمُ (واقصد التحولات) عن ارادة تركيّة وسوريّة وعراقية صادقة، وستكون مؤثرّة ومتحرّرة من الاملاءات الأمريكية. أرادَ الرجلُ، وهو مُحق بذلك الا يكون بعيداً عما يدور، وان يساهم بطريقة او بأخرى في بلورة هذه التفاهمات والتي ستقود إلى امن واستقرار وازدهار اقتصادي لهذه الدول وفي المنطقة
الرئيس البرزاني مُدرك تماماً بأنَّ امريكا لا تستطيع ثني الرئيس اوردغان من المضي في مسار الصلح والاتفاق مع سوريّة، وتوسيع هذا الاتفاق ليضم العراق و ايران، و مُدرك (واقصد الرئيس برزاني) بأنَّ مستقبل هذه الدول او المنطقة اصبح بيد اللاعبين الإقليميين الكبار والعراق وسوريّة، وبيد حركات المقاومة المناهضة لإسرائيل وللارهاب .
الرئيس البرزاني يرى ويدرك بأنَّ تركيا التي هي عضو مهم في حلف الناتو وشريك مهم لأمريكا، لم تنقذها امريكا ولم ينقذها الناتو من مشاكل هجرة السوريين اليها، ولا من مشاكل حزب العمال الكردستاني، ولا من مشاكل قسد (قوات سوريّة الديمقراطية) والذين يطالبون بحكم ذاتي كردي في سوريّة، فعادت تركيا، من جديد، إلى سوريّة والى العراق لاعانتهما في حل هذه المشاكل. وسنرى بأن عودة تركيا إلى حضنها الاقليمي ستكون عودة مُثمرة، لانها عودة إلى الحضن الذي قفزت منه وحاولت تخريبه ولكن لم تنجح. ومثلما يقول المثل ”الضربة التي لا تميت او لا تُقتلْ ستقّوي ” .