الصين أم أمريكا: من سيتفوق في حرب الذكاء الأصطناعي الباردة؟
منقذ داغر
2024-06-24 04:44
قد يتبادر لذهن من قرأ مقالي السابق أن أميركا تتفوق بشكل حاسم على الصين في مجال الذكاء الأصطناعي بخاصة بعد قراءة الارقام التي تصب في صالح الاولى.على الرغم من الصحة النسبية لهذا الاستنتاج الا أن الصورة الكاملة للموضوع تختلف بشكل كبير. يمكن القول أن هزيمة برنامج الذكاء الأصطناعي الذي صممته شركة ديب مايند DeepMind الاميركية للبطل الصيني في لعبة Go الصينية والتي يعدّها الصينيون أعقد بألف مرة من لعبة الشطرنج التي فاز نفس البرنامج على بطل العالم فيها، مثلت للرئيس الصيني ينك بنك Xi Jinping ما يشبه لحظة سبوتنك Sputnik moment أي اللحظة التي أدرك فيها الأميركان أن السوفيت قد سبقوهم في أطلاق أول قمر صناعي للفضاء في 1957 مما حفزهم لاطلاق برنامج الفضاء الأمريكي.
لقد أصاب الأميركان الكبرياء الصيني في مقتل، أذ أثبتوا أن ذكائهم الاصطناعي قادر على التفوق على أفضل عقل صيني موجود. لذا أمر الرئيس الصيني في ذلك العام (2016) بتطوير برامج الذكاء الأصطناعي التي تجعل الصين قوة رائدة في هذا المجال، ووضع أهداف محددة وطموحة لغاية العام 2049 أي للذكرى المئوية لنجاح الثورة الصينية.
لقد أثبتت الصين قدرتها على سرعة ترجمة أوامر رئيسها بحيث كانت 19 من أفضل 50 براءة أختراع في مجال الذكاء الأصطناعي في عام 2018 من نصيب الصين مقابل 12 من نصيب أميركا مع أن المراكز الثلاث الأولة كانت كلها أميركية.
وتمكنت الصين من أستثمار ميزتي الحجم والنظام السياسي بشكا أمثل، لتتفوق على أمريكا في ثلاث مجالات للذكاء الأصطناعي تكنولوجيا المال، وتكنولوجيا المراقبة، وتكنولوجيا المحادثات. تمثل تكنولوجيا المال Fin tech أكبر تفوق للصين حالياً على أمريكا. فالحجم الهائل للسوق الصينية، وأنخفاض الأستثمارات الصينية في السوق البنكية التقليدية (مقارنةً بأمريكا) فضلاً عن أنخفاض الأجور والدخل مثلت فرصة كبيرة للقطاع المالي الصيني للأنطلاق بقوة نحو سوق صيني تكاد تنعدم فيه النقود السائلة وبطاقات الأئتمان أيضاً.
ففي الوقت الذي يكتشف فيه الزائر لأمريكا أن معظم التعاملات المالية تجري بالبطاقات الأئتمانية في أمريكا فأن الزائر للصين سيكتشف أن معظم تلك التعاملات تجري عبر الموبايل. لقد قال مؤسس الشركة العملاقة علي بابا جاك ما Jack Ma قبل سنوات أنه "أذا لم تتغير البنوك،فسوف نغير البنوك"، وقد فعلها حقاً. فمقابل كل دولار أمريكي يتم تحويله من خلال التطبيقات الرقمية عبر الموبايل في أمريكا، هناك اليوم ما يعادل 50 دولار يتم تحويلها رقمياً في الصين.
كما بات هناك ثلاثة أرباع مليار صيني يستخدمون اليوم الخدمات المصرفية الرقمية ويمثلون النسبة الأعلى عالمياً في أستخدام هذه التكنولوجيا. وفي الوقت الذي وصل مجموع مستخدمي تطبيق آبل بَي Apple Pay الأمريكي الى 22 مليون مستخدم فأن عدد مستخدمي وي جات WeChat الصيني بلغ 900 مليون في سنة 2019 وهو بالتأكيد تجاوز المليار مستخدم الآن.
هذا كله جعل مقدار المدفوعات الرقمية من خلال الشركات الصينية أعلاه (عبر الموبايل) تتجاوز 20.5 تريليون دولار سنوياً مقابل 354 مليار دولار فقط لعملاق المدفوعات الرقمية الأمريكي PayPal .
تعد تكنولوجيا الذكاء الأصطناعي اللغوي أحد أكبر وأهم أسواق الذكاء الأصطناعي التي تتنافس فيها الصين مع أمريكا بما في ذلك تقنيات المحادثة باللغة الأنكليزية. أن عدد مستخدمي برامج اللغات لأكبر شركة صينية في هذا المجال آي فلايتك iFlytek هو 700 مليون شخص مقابل 375 مليون مستخدم ل Siri الأمريكية.
ومع أن البرامج الأميركية في مجال "نماذج اللغات الكبرى LLM " هي الأقوى والأهم وتمثل 50% من السوق العالمية في هذا المجال الا أن الصين تبذل جهود جبارة في هذا المجال حتى أنها باتت تسيطر على 40% من السوق اليوم.
وفي بداية هذه السنة أجازت الصين 14 برنامج جديد لنماذج اللغات الكبرى لكن العقبة الأساسية التي تواجه الصين في هذا الجزء من الذكاء الأصطناعي أي LLM هو القانون الأمريكي الذي يمنع تصدير التكنولوجيا المتطورة للصين،مع أن هذا القانون سيحفز الصين للاعتماد على نفسها أو التفتيش عن البدائل. أن هذه البرامج تعتمد بشكل أساس على الرقائق الألكترونية المتطورة التي قلت في المقال السابق أن أميركا شبه محتكرة لصناعتها حالياً.
أما المجال الثالث للذكاء الأصطناعي الذي تتنافس الصين فيه بقوة (بل وتتفوق فيه) فهو تقنيات المراقبة والتعرف على الوجوه surveillance and face recognition أن تقديرات عدد كاميرات المراقبة CCTV’s في الصين حالياً تتراوح بين 700 مليون الى مليار كاميرا وبما يزيد عن 50% من الكاميرات في كل أرجاء العالم.
لذا فليس من المستغرب أن أكبر خمس شركات عالمية في مجال تمييز الوجوه كلها صينية لقد بلغ التطور في مجال التعرف على الوجوه في الصين أن أحدى شركاتها أعلنت في أعقاب وباء كورونا أنها طورت نماذج ذكاء أصطناعي تستطيع تمييز حتى الوجوه التي ترتدي أقنعة! وفي المسابقة الدولية لبرامج التعرف على الوجوه التي عقدت عام 2018 كان الخمسة الأوائل جميعهم من الصين. أن التحديدات القانونية في أمريكا فضلاً عن ثقافة الخصوصية هناك تقف حائلاً دون أستطاعة منافسة أمريكا للصين في هذا المجال حتى الآن.
بعد هذا المقال عن التطور التكنولوجي للصين في مجال الذكاء الأصطناعي، والمقال الذي سبقه والذي أوجز تطور الولايات المتحدة في هذا المجال، تبقى الأجابة حائرة عن السؤال الذي طُرح كعنوان لهذه المقالات: من سيفوز بالحرب الباردة المستعرة اليوم بين الصين وأمريكا في الذكاء الأصطناعي؟ هذا السباق وكما يعتقد هنري كيسنجر هو أهم بكثير من أي تنافس عرفته البشرية، بما في ذلك مجال التنافس النووي، نظراً لآثاره المباشرة على مستقبل العالم (سلباً أو أيجاباً)؟ هذا ما سأحاول الأجابة عنه في مقال قادم أن شاء الله.