حضارة الإحساس.. وعصرية الشعور
أمل فؤاد عبيد
2024-05-27 05:38
الكتابة الفردية المميزة تفرض ذاتها كلما امتازت بشيء من الخصوصية، وكلما ايضا -من جانب آخر- كان لها وجهها العام وغير المغلق على ذاته، هي مسألة عقلنة الشعور في اسطر مقروءة، او شاعرية الفكر عندما نطرحه في لحظة ما للقراءة او لفعل القراءة، ان الحس المجرد قد يرتفع استواءا عندما يكون في مجال فلسفي بحت.
اي عندما نخاطب مقولات مجردة، ولكن عندما نخاطب او نتعامل مع مفردات موجودة او معقولات مقروءة، يصبح الحس المجرد منفيا، بل هناك يتراءى لنا، تفرد المعاني الملموسة او الحسية وتحاضر وجودها عبر عقل القارئ او الرائي او المشاهد،
وبعيدا عن هذا التحليل الفلسفي البسيط، نرى ان التعامل مع الاحساس بعيد عن مستوى الفكر يبقى مجرد احساس عادي، او هامشي المعنى، ولكن في وجهة تحليل سليم نرى ان الاحساس عندما يخضع لمنطق العقل او حتى تفسير عقلي ما يمكن ان يبرره في لحظة فسوف يعطيه معنى او مضمونا ما، يجيزه ويشرعه.
ولكن في تحليل اخر نرى ان الاحساس العميق والاكثر فاعلية هو الاحساس الذي يرتهن لمفهوم الضمير ويقاس بمقياسه العميق، ويقدر ان الضمير هو مرجعية تتيح امكانية الحكم على الاشياء والفكر والاحساس معا، ومن ثم، نقول ان الضمير هو بنية تحتية يقدر فوقها بناء بأكمله، الانسان في كليته المعهودة والمعروفة.
وفي حال ضياع الضمير وموته باللغة الدارجة، لايكون هناك ما يستوعب لحظات الاحساس باي وسيلة كانت، ليصبح الانسان عرضة لتداخلات هشة من المشاعر والدلالة غير المفهومة لكثير من ردود فعله التي لا يكون له التحكم فيها، وهي ردود فعل من حيث مضمونها لا معنى لها وتكون ساقطة، لا قيمة لها وقد يكون خارجا حدود المتاحة لأبعد مدى، فقد يسقط الفرد في هذه الحالة اخلاقيا وسلوكيا، دون ان يعي أن مسالة الضمير التي تغلف تجربته بالحماية اللازمة قد فقدت قيمتها الاساسية في جدولة سلوكه او ردود فعله امام الاحداث والعالم الخارجي.
في زمان مثل زماننا هذا.. قد يتراءى لنا الحال بأبعد ما يكون عن تصور الضمير، والضمير في اعتبار الاديان وتقديرها هو صوت الله في دواخلنا، هذا الصوت الذي يبقينا على اتصال دائما بالله، وحال انقطاع الرجاء بالله، وحال عدم اكتمال التواصل به، والبعد عنه يصبح من المحال ايجاد مكان قابل لترسيخ او تأصيل الضمير، عند هذه النقطة لا يكون هناك مجال لنقاش ما، ويصبح الباطن دمويا واكثر قسوة واكثر اجتياحا لمناطق أمان الاخرين، ومردود هذا لايكون في شكل الفعل المباشر ولا في شكل مادي، فقد يكون الفعل معنويا اكثر منه ماديا، وتصبح مساحة الصراع كبيرة ودرجة الغلولة عالية، مما يصدر عنه ما لا يحمد عقباه.
والى جانب هذا ليس هناك مناطق للممنوع، فكله متاح وممكن، كل مناطق الفعل تصبح قابلة للفعل والارتياد بلا وازع او خوف، او مراجعة ضمير، من هنا لا يكون هناك اي رجاء في تحقيق عدل ما، ولا وجود اي سبيل من سبل الحق، وتصبح الامور اكثر راهنية لمبدأ القوانين الاجتماعية والاحوال الشخصية، وتحقيق العدل وإحقاق الحق يصبح مسالة اكثر مشاغبة واكثر إثارة للقلق بين افراد المجتمع الواحد.
عند هذه النقطة لا يكون هناك فاصل حقيقي اللا الضمير فقط بين فعل وآخر وبين رد فعل وآخر، ويصبح السؤال مطروحا على انه مقدمة ليس اكثر لإثارة الفكر حول طروحات من الممكن ان تقدم حلولا جديرة بالتحقيق والتنفيذ واقعيا، ومن أهم الافكار التي استأثرت بعقول علماء الاجتماع وعلم النفس هو تحديد المسؤولية الفردية والجماعية حول مسألة الضمير وتأسيسه، وكان السؤال من هو المسؤول عن تأسيسه؟ ومن هو القائم العدل على تحقيق معادلة الانسان/ الفاضل؟ ومن هو في نهاية الامر الانسان الفاضل؟
وقد طرحت اجابات كثيرة على هذا السؤال ولكن كان جميعها تدور حول مضمون واحد هو الانسان الذي يستطيع التكيف ايجابيا مع المواقف السلبية اكثر من الإيجابية، متمسكا بقيمة الحق كيفما يراها متناسبة مع شروط الحياة السوية والفاضلة، هو هذا الانسان الفاضل، ومن ناحية اخرى وجدت الكثير من مدارس علم النفس ان تحديد الشخصية الفاضلة/ السوية تتحد تبعا لشروط لابد من توافرها حتى نستطيع ان نقول ان هذا فاضل ام لا، وهذه الشروط هي التي لا تخل بمبدأ الفضيلة العام الذي تم تحديده مجتمعيا سابقا، وتكون فكرة التوافق مع هذا المبدأ العام شرط اساسي لتمكين الفرد من الفضيلة والاستواء نفسيا مع مفردات واقعه وحياته.
ولكن من جهة اخرى يبقى مسألة الضمير وتأسيسه مسألة جد صعبة لتحديد متوافقات مضامينه وتأسيسه على بينة محددة مسبقا لذا نقول: ان الضمير هو شفافية الحس ومعرفة ما يصح ولا يصح، دون احتياج لشيء خارجه ابدا، وهذا يعتبر اساس تقبل الفرد لمبدئيات الممنوع واللا ممنوع في حياته، دون فرض قوة او املاء بالإكراه.
وقد يكون هناك ظروفا تعترض طريق تحقيق هذا الحس الا ان العادة هي ان الأمور التي تخرج عن إطارها الخاص بها لابد ان تشعر بخلل ما، لتعود باحثة عن عدلها وتوافقها واحساسها الخاص بها بما يتلائم وثباتها وأمنها ايضا، من ناحية أخرى هناك النماذج التي لابد من النظر اليها والتي تفتقد الاساس الاول والنهائي، والتي ايضا ليس لديها الاساس او المبتدأ الاول لبناء صرح الضمير، من ثم نجد انها هذه النماذج لا تشعر بما تشعر به النماذج الاخرى عندما تضل الطريق ولو لفترات قصيرة، لذا فهي تفتقد اساس الحس الشفاف وبراءة الاحساس الفطري للحق والخير والجمال، لذا لابد ان تكسر قواعد التزام الفضيلة باي سبيل تجده متاحا امامها ولا تني ان تستغل فرص الاخلال بشروط الحياة الجماعية والفردية السوية، من ثم كانت افعالها وانتهازيتها سببا لحدوث شقاق وسوءات ظاهرة على مستوى الجماعة والافراد.
وعلى الرغم من الحضارة ومظاهرها التي نعيشها وعصرية الحياة التي نحياها، وعلى الرغم من تطور مظاهر التعامل مع الحياة ومفرداتها بكثير من الحضارة والعصرية، لازال هناك الكثير من الشرور وفقدان الضمير الذي ينتج عنه الكثير من مظاهر التفكك والانتهازية بكل اشكالها، وفروضاتها غير الاخلاقية، منه ما هو قائم بين الافراد على مستوى الشعب والدولة الواحدة، ومنه ما هو قائم بين الدول والشعوب المختلفة، وتصبح المسؤولية أكبر من حجمها الاعتيادي الذي كان حاضرا على مستوى الدراسات الممكنة في العلوم الإنسانية، لتأخذ اتجاها آخر ووجهة أخرى ذات اهمية تستدعي تشغل الفكر والعقل على مستوى العالم بأسره، لحل أزمات منها ماهو مزمن، ومنها ما هو في سبيله للظهور حسب توقعات الدراسات الاحصائية العلمية.
من هنا كان واجبا على جميع الهيئات والمؤسسات الثقافية والدينية إعادة تأهيل الشعور وإعادة صياغة العقل والحس الجماعي والذي يسمى عادة بــ common sense على ان التعاون والتفرد والتميز وكل صور الاشكال الاجتماعية بما فيها التعبير الذاتي والجماعي عن صور ونماذج الجمال والخير، هي صور لابد من التركيز عليها والتفاعل معها بايجابية حتى يتسنى توسيع دائرة الخير، بما يسمح بامتصاص نماذج الشر واللا معقول بكل مافيه من سلبية.
وكان من اهم النقاط التي تم طرحها كحلول فعالة في هذا المطلب هو توسيع دائرة الابداع، وقبول الاختلاف والحوار بإيجابية تسمح بالتعبير عن المختلف والمضاد دون تحيزات ذاتية تعيق الفهم واستيعاب حقوق الآخرين على انها حقوق مشروعة ايضا.
اما فيما يخص الخطاب الديني المباشر والذي يتم تداوله من خلال المؤسسات الدينية، وايضا المناهج التي يتم تلقينها في سنوات التعليم المختلفة لابد ان يتم التركيز فيها على جماليات النص الديني وما يتضمنه من توجيه خلقي واخلاقي وسلوكي أيضا، والتأكيد على اوجه المقارنة بين الخير والشر دون التفات مباشر للمكاسب بل ليصبح النزوع نحو الجمال للجمال فقط وللخير للخير فقط هو مطلب وغاية لكل فرد، ذلك حتى إذا ما واجه الفرد موقفا اخلاقيا لابد ان يختار فيه، يكون مقياس اختياره منطلقا من مبدأ ثابت ومرهونا لما في داخله من جمال وخير وليس لما سوف يحقق ذلك الاختيار من مكاسب مادية.
وهو ما سوف نحقق من خلاله تغيير في بنية الاحساس بالعالم والتعامل مع مفرداته من بشر واشياء، كما اننا في حاجة لتطور مفهوم المشاعر بما يتناسب وحالة التشوه التي نعاينها في ايامنها هذه والشعور بالغربة الشامل لكل شيء.
فلم يعد امامنا لتجاوز هذه المشاكل وهذا الاغتراب إلا ان نسعف أنفسنا بكثير من الحب والوقوف على اهداف غير التي تأسرنا في واقعنا الحالي، ومن ثم تغيير توجهات ومنطلقات باتت تشكل ايضا موانع ومعطلات ذهنية تعيق توافقنا النفسي مع التجديد والمعاصرة، منها ما يتخذ من سياسات باطلة في شؤون التوجيه المعنوي والتعليمي والتربوي التي لم تعد تتواءم مع شكل العالم ومحتواه الان.
وأيضا لم تعد كافية لتخلق عالما من الافراد قادرين على اتخاذ قرارات سليمة ومتوافقة مع مطالب الحياة الاجتماعية السوية بأبعادها النفسية والاخلاقية والخلقية والابداعية والعملية ايضا، إن الفرد ما لم تتم تنمية مهاراته وقدراته وإمكاناته، لن يكون له القدرة على توجيه سلوكه وايضا على اتخاذ القرار.
كما ان المؤسسات الثقافية موكول لها ان تخلق جوا ابداعيا يتيح الفرص للخلق نماذج ابداعية تعيد تشكيل العالم النفسي والذهني من خلال ابداع قادر على توصيل المثل والقيم الطيبة التي لا غنى عنها في تأسيس الضمير الفردي والجماعي ايضا.. من هنا كانت هذه المؤسسات التربوية والتعليمية والدينية والثقافية، بل والثقافة بشكل عام من اهم القنوات التي يستقي منها المجتمع قيما معينة ويتشكل وجدانيا أيضا، ومن ثم سلوكيا.. وهو الغاية التي يصبح فيها الابداع الثقافي بكل نشاطه عملية تطهير يقوم بها عن غير وعي او بلا مباشرة، الى جانب ان التعليم يساعد على اكتشاف المقدرات الذاتية وايضا تمكين الفرد من قدرات جديدة تعينه على كشف العالم من خلال اساليب ذهنية ايجابية مطلوبة.
وهذا كله يصب في نهاية الامر في قناة المشاعر والاحساس التي تكون مضمون الشخص وتحدد كيفية تعامله مع الاخر والعالم، اعتمادا على ما تأسس في الضمير والعقل والوجدان.