إشكاليات القطيعة والتصادم بين الاسلاميين ومستقبل العلاقة
القسم الاول
زكي الميلاد
2024-05-08 09:50
ما أظهره الإسلاميون من نشاط سلوكي، خلال الفترة التي سجل لهم فيها الحضور السياسي والاجتماعي الواسع، والذي أخذ وتيرة متصاعدة وسريعة مع بداية عقد الثمانينات من القرن الأخير، الحضور الذي كان هو الأبرز من بين كل التيارات والنخب السياسية والفكرية الأخرى المغايرة، بعد زمن من الغياب العلني والظهور العام.
هذا النشاط السلوكي في المنظور النقدي الراهن بحاجة إلى مزيد من التأمل والمراجعة، بعد أن برزت من الظواهر والمواقف والأحداث والأفكار ما هو خطير، وينذر بخطر شديد، كما أن هذا السلوك العام بات من الممكن توصيفه وتناوله بأدوات التحليل لدراسة عناصره ومكوناته ووضعه في إطار معايير التفسير والقياس، لشدة ظهوره العيني، بعد أن كان من الظواهر التي يصعب توصيفها والإحاطة الكافية بها، مع الوضع الذي كان عليه الإسلاميون في السابق مع أجواء السرية والتكتم وتجنب الظهور في الشأن السياسي مما جعل توفر القرائن الحسية غير كافية آنذاك.
وبصورة عامة نحن أمام مرحلة بحاجة أن نتوقف عندها، بعد عقدين من الزمن برز فيها الإسلاميون بنشاط كبير، وأصبح وضعهم مختلفاً تماماً عما كانوا عليه قبل ذلك لأن ما شهدته الحركة الاسلامية خلال هذين العقدين من تحولات وتغيرات، ذاتية وموضوعية، محلية وإقليمية، / سياسية واجتماعية، فرض عليها أن تنتقل بأوضاعها بصورة نوعية وسريعة، كما ان حجم وكثافة ونوعية هذه التحولات والتغيرات لم تجتمع في فترة زمنية محددة كهذه الفترة، مما ضاعف الاهتمام بضرورة إعادة النظر في برامج الإسلاميين وخططهم ومشاريعهم، وفي نظرتهم للواقع الموضوعي المحيط بهم، وفي رؤيتهم للمستقبل الذي يتطلعون إليه.
فالظروف السياسية كانت تحركها رياح ساخنة، والواقع الاجتماعي كان يشهد اهتزازات حادة، والأوضاع الاقتصادية الخانقة تولدت عنها انفجارات غاضبة.. في ظل هذه الظروف والأوضاع نشط الإسلاميون بشكل ملفت للأنظار، النشاط الذي اعترض بعض جوانبه النقد الشديد، خصوصاً في مجال علاقات الإسلاميين فيما بينهم، وعلاقتهم بالآخر المختلف في الفكر أو المنهج أو البرنامج.. وهذا ما نلمسه من خلال ظواهر كثيرة تنامت في هذه الفترة بالشكل الذي يستوقف الانتباه لخطورة تداعياتها على حاضرنا ومستقبلياتنا..
هذا ما تحاول الورقة هذه الاقتراب منه، وتسليط الضوء عليه أو على بعض جوانبه.. فهناك من الاختلافات في الساحة الاسلامية وصل إلى وضع لا يطاق، ومن يقترب من هذه الساحات يصطدم بواقع لا يكاد يحتمل، بعد أن تجاوزت هذه الاختلافات حدودها المعقولة، وأخذ الجميع يستشعر ضررها، وهناك من يتمزق منها. ولعل الساحة الاسلامية من أجل الساحات التي تتعدد فيها عناوين الخلاف، وأكثرها خصوبة وحدية بالوضع الذي هي عليه.
وقد أثبت الإسلاميون عجزهم وفشلهم في التعامل مع الاختلاف فيما بينهم، مع كل الأصوات التي تتعالى في كل الساحات والمجتمعات متذمرة من هذه الاختلافات المستعصية، والتي مضى عليها زمن طويل من غير أن يحصل فيها أي تراجع أو ركود. وغالباً ما كان يصاحب هذه الاختلافات حالة من القطيعة بين الإسلاميين تسلب منهم القدرة على إمكانية التعاون والتوافق والتنسيق وإن على المستوى الأدنى، وفي القضايا الحرجة والحساسة.
ولا يقف الوضع عند هذا الحد، بل له قابلية التطور ويكون خصباً لتبادل الاتهامات والتجريح والقدح، وقد يصل إلى ما هو أسوأ من ذلك، وأبعد ما يكون متوقعاً كالاقتتال والتراشق بالسلاح والأدوات العنيفة كالذي حصل في أفغانستان ولبنان والجزائر وشمال العراق، ومرشح لأن يحصل في أكثر من ساحة أخرى.
كيف نفسر ما يحدث في أفغانستان؟
الانتصار الذي تحول إلى هزيمة، والدين الذي تحول إلى قبيلة، والبلد الذي كان بأمسّ الحاجة إلى الإنماء والاعمار تحول إلى خرائب ومتاريس للقتال.
وكيف نفسر ما حدث في لبنان؟
ففي الوقت الذي كانت فيه اسرائيل تحتل أرضه في الجنوب وتحولها إلى شريط أمني لحمايتها، كان يحصل الاقتتال العنيف جداً بين جماعات إلى وقت قريب كان الكثير منهم في جماعة واحدة، والبعض منهم. أيضاً. من عوائل واحدة.
أو كيف نفسر الذي يحدث في الجزائر؟
بلد الجهاد والشهداء، مع هذه الجرائم المروعة، التي يتحمل مسؤوليتها الجميع حتى يثبت الطرف المسؤول عنها حقاً. أو التصفيات الجسدية التي حصلت في تداخل بعض الجماعات هناك، لشخصيات مسؤولة، تحت مبررات لا يقبل بها عقل ولا منطق ولا ضمير ولا قانون.
وهكذا الوضع يتكرر في ساحات أخرى، حتى أصبحت مجتمعاتنا مهددة بخطر الاحتراب الداخلي والاقتتال والحروب الأهلية، التي لا تعطي أي اعتبار لحقن الدماء، أو الحفاظ على أرواح الأبرياء، وتهديد الأمن والسلم الأهلي، وتغلق على الناس أبواب الرزق، وتزرع في نفوسهم الخوف والهلع..
وهذا يؤكد على أن كل من حمل السلاح من اسلاميين وغيرهم، ليس هناك من رادع يمنعهم من استعماله في غير مكانه، أو أن لا يصوب على الأبرياء، وان الذين ينشرون خطاب الحرب والقتال، قد يحصدون حرباً وقتالاً بين الناس.
من هنا ينبغي اعادة النظر في رؤية الاسلاميين للعنف، وان الأصل في العمل الاسلامي هو السلم وليس العنف، كما أن العنف قد لا تسلم منه الجماعة التي تؤمن به. كما نلحظ في علاقات الاسلاميين حالات من الإقصاء والإلغاء فيما بينهم، والتعامل بمنطق الاستقواء والتعايش، وقد تصل إلى ممارسات من الهدم إلى غير ذلك.
فالاسلاميون لم يستطيعوا أن يقدموا أنفسهم إلى الساحة والناس والعالم بالصورة التي يعبروا عنها في خطابهم الثقافي والسياسي والأخلاقي، مع كل ما يتعرضون له من تشويه وإسقاط، مع ذلك فإننا لا نستطيع أن نتغاضى عن بعض الظواهر التي تكشف عن استبداد وانتهاك لحقوق الانسان يقع فيها بعض الاسلاميين، فالصفة الاسلامية التي يحملونها ويعبرون عن أنفسهم بها، لا تعطيهم حصانة من أن يوجه لهم النقد.
إن الحديث عن الاسلاميين بهذا الوضع ينبغي أن لا يفسر على أنه تحامل أو هجوم، أو أن يقابل على غير نوايا صادقة، فالحرص على الحالة الاسلامية مع الوضع الذي وصلت إليه، ليس بالصمت، أو التستر على الأخطاء، وليس بالتبجيل أو المدح أو الثناء الكاذب، فالنقد، أو بتعبير أدق ليس كل نقد هو تجريم أو تشهير، ولا يفهم إلا على أنه كشف للعيوب، كما لا يصلح أن نتعامل مع كل نقد بتنكر وعدم إكتراث، ونضيق به ذرعاً، ونفتح عليه معركة بأي صورة كانت هذه المعركة، لأننا بهذه الطريقة نكون قد مارسنا شكلاً من أشكال الاستبداد في الوقت الذي نكون نحن من ضحاياه، وأكثر من تضرر منه.
وإذا كان من دور ينتظر منا فهو أن نوقف الانحدار ونمنع الكارثة من أن تتكرر فالوضع الاسلامي العام أصابه الانكسار فكيف نحافظ على تماسكه من التفتت؟ وكيف نتعامل مع إشكاليات التصادم بين الاسلاميين؟
فالخوف بات حقيقياً على الحالة الاسلامية ومستقبلياتها، هذا الخوف الذي يجاهر به البعض صراحة، ويتكتم عليه البعض الآخر. في سنة 1989م كتب الشيخ «محمد الغزالي» يقول: «نريد للصحوة الاسلامية المعاصرة أمرين: أولهما: البعد عن الأخطاء التي انحرفت بالأمة وأذهبت ريحها وأطمعت فيها عدوها.. والآخر: اعطاء صورة عملية للاسلام تعجب الرائين، وتمحو الشبهات القديمة، وتنصف الوحي الالهي.. ويؤسفني أن بعض المنسوبين إلى هذه الصحورة فشل في تحقيق الأمرين جميعاً، بل ربما نجح في إخافة الناس من الاسلام، ومكن خصومه من بسط ألسنتهم فيه» (1).
وفي سنة 1990 كتب الشيخ «يوسف القرضاوي» يقول: «لا يزعجني أن يكون للصحوة الاسلامية المعاصرة أعداء من خارجها يتربصون بها، ويكيدون لها، فهذا أمر منطقي اقتضته سنة التدافع بين الحق والباطل.. إنما الذي يزعجني ويؤرقني ويذيب قلبي حسرات، أن تعادي الصحوة نفسها وأن يكون عدوها من داخلها، كأن يضرب بعضها بعضاً، ويكيد بعضها لبعض، وأن يكون بأسها بينها.
ولا يزعجني أن يكون في الصحوة مدارس أو فصائل أو جماعات لكل منها منهجه في خدمة الاسلام، والعمل على التمكين له في الأرض... ولكن الذي يدمي القلب حقاً أن يوجد بين الدعاة والعاملين من لا يقدر هذا الأمر حق قدره، وأن يبذر بذور الفرقة أينما حل، وأن يبحث عن كل ما يوقد نيران الخلاف، ويورث العداوة والبغضاء، وتركيزه دائماً على مواضع الاختلاف، لا نقاط الاتفاق، وهو دائماً معجب برأيه، مُزَكٍّ لنفسه وجماعته، متهم لغيره» (2).
هذا الكلام الذي تحدث به كل من الشيخ «الغزالي» و«الشيخ القرضاوي» قد تفاقم اليوم بصورة أسوأ عما كان عليه في ذلك الوقت، وهو آخذ في التفاقم ما لم يوضع له حد، والأصوات في تزايد التي أخذت تحذر من المخاطر الداخلية التي يتهدد منها مستقبل الاسلاميين، ومن مغبة تردي الواقع الاسلامي، وهذا الانحدار الخطير في علاقات الاسلاميين فيما بينهم.
فكيف نضع تفسيراً لاشكاليات القطيعة والتصادم بين الاسلاميين وماذا عن المستقبل؟