لغة التخوين تغلق فضاء المجتمع المدني ومنظماته
علي الطالقاني
2024-03-31 05:30
"إذا أردنا أي تطور ملموس، يجب علينا أن نستميل المجتمع المدني" نيلسون مانديلا
تواجه منظمات المجتمع المدني باستمرار حملات تشكيك وتخوين، وليس من المستغرب ذلك لأن "الناس أعداء ما جهلوا" خصوصا في بلد عاش عقود طويلة بقبضة أنظمة استبدادية وحرمان وديكتاتورية وفجأة يفتح الباب على مصراعيه لتدخل الحداثة بكل ما تحمله من أفكار ومشاريع من بينها مفهوم المجتمع المدني ومنظماته.
صحيح أن هناك منظمات خالفت القوانين ولاحقا تم اتخاذ إجراءات قانونية ضدها، لكن هذا لا يعني أن تسري السمعة السيئة على أصل عمل ودور المنظمات والأشخاص، خصوصا أولئك الذين لديهم تاريخ نظيف ونزيه، ولا ينبغي أن تستمر المخاوف والجهل بهذا الدور (الإنساني، والخيري، والتطوعي الوطني) وكلنا يرى اليوم ما تقوم به المنظمات في تجاربها الدولية والمحلية تجاه الأزمات ومواجهتها.
اليوم نشعر بالقلق إزاء القيود المفروضة على الحيز المدني والتي تهدد حماية الحقوق، ونتساءل عما إذا كان لا يزال من الممكن انتقاد السياسات العامة دون خوف من العقوبات أو الأعمال الانتقامية، ويبدو أن الجهود التي تبذل من قبل المواطنين والمتطوعين والمتبرعين والمنظمات وخاصة عندما تكون ذات أهمية وملفتة، ينظر إليها بشكل متزايد من الشك، والمضايقات، والقوانين المناهضة، والممارسات التعسفية، والتجريم، كلها تضرب جذور الفضاء المدني وتغلقه، وتنزلق البلدان نحو الهاوية.
كثيرة هي الممارسات التي تعرض شرعية المجتمع المدني للانتهاك وتصب في مصلحة الجماعات المعادية للديمقراطية والحريات العامة، بل تخلق بيئة خصبة لنظرية المؤامرة، والمعلومات المضللة، والأصوات المناهضة لمنظمات المجتمع المدني.
تركز هذه المقالة وهي جزء من رصد الانتهاكات ضد المنظمات غير الحكومية والتي تتخذ مجموعة أنماط مختلفة من أخطرها:
1- الأحاديث المتداولة التي تشكك وتسيء لسمعة عمل المنظمات غير الحكومية وتوسمها باتهامات مختلفة من بين تلك الأحاديث أنها "مشبوهة" أو "عميلة" أو ممولة وتعمل وفق "أجندات خطيرة" أو أنها "تروج لثقافات فاسدة" أو أنها جهات فاعلة سياسية حزبية بهيئة مدنية، أو اعتبارها سياسية بشكل غير شرعي، في وقت أن هذه المنظمات تنطلق من مفهوم واسع وهو المجتمع المدني الذي يحمل في أدبياته وتخصصه آفاق معرفية وثقافية واسعة تتعدى الفهم الضيق.
2- يقوم النقاد بتصوير المنظمات والمؤسسات على أنها نخبة ولا تمثل سوى نفسها في إشارة إلى الخلفيات التعليمية، والتمويل، والرواتب، والسفر، والمنافع بمعنى أنها بعيدة عن المواطنين وهموهم.
3- هناك فهم مغلوط تجاه مفهوم المجتمع المدني ومؤسساته ومنظماته، وبالتالي تسعى بعض الجماعات او القوى السياسية لسن قوانين وتشريعات تغفل في كثير من الأحيان إن هذه المنظمات هي صوت المواطن والوسيط، وتلعب أدورا مهمة خصوصا أوقات الأزمات.
4- تثير الإشكاليات ضد المنظمات الأسئلة التالي: ما هي مصادر شرعية منظمات المجتمع المدني؟ ومن أين تحصل على التمويل؟ وكيف يمكن الصمود في وجه الهجمات والدفاع عن نفسها بشكل علمي وتثبت وطنيتها وحياديتها؟
هذه الاشكاليات ليس لها إجابات سهلة، لأن الشرعية مفهوم يصعب تحديده وقياسه وإثباته، فأن جماعات المجتمع المدني تختلف من حيث هويتها وأهدافها وأنظمتها وتخصصها، ويزداد الأمر تعقيدا عندما يكون المعترضون أو المشككون يجهلون دور وعمل المنظمات، أو بسبب تأثرهم بالدعاية والإشاعات، أو بسبب تعارض المصالح..
تحمل هذه التحولات في التفكير بين طياتها تحديات خطيرة تواجه منظمات المجتمع المدني وتؤثر على وظائفها واستجاباتها واستدامتها، بل يجب أن تؤخذ هذه التحديات بنظر الاعتبار من قبل المنظمات والقائمون عليها عبر عدة مسارات:
1- دراسة دوافع التصريحات أو الأحاديث السلبية عن منظمات المجتمع المدني، ولماذا تجد صدى لدى بعض الجمهور، ومن هم الفاعلون الذين يقودون تلك الممارسات، وما الذي يحفزهم على ذلك؟ وما هي الآليات والتكتيكات المستخدمة..
2- مواجهة التغييرات في التشريعات، أو عدم الالتزام بالقوانين الداعمة لعمل المنظمات، فان إحدى أقوى الأدوات التي تستخدمها الحكومات الاستبدادية لحماية نفسها من المساءلة هي التشريعات التي تقيد منظمات المجتمع المدني بذرائع مختلفة وممارستها التضييق من خلال حجب الوصول الى المعلومات، وسن قوانين تتعارض مع الحريات ومفهوم المجتمع المدني الذي هو في الأصل واحدا من أركان الديمقراطية، وتقييد وتغييب التنسيق مع المجتمع المدني.
3- يجب التوعية تجاه احترام الحريات الأساسية للمجتمع المدني، وتكوين الجمعيات، والتجمع السلمي والتعبير، والسماح لمنظمات المجتمع المدني بالعمل بحرية وفعالية.
4- ينبغي معالجة الأسباب الجذرية وراء الاستياء أو التشكيك بدور المنظمات خصوصا في القضايا التي تؤثر بشكل مباشر على حياة الناس، وتسليط الضوء على مساهماتها المتنوعة في التنمية الاجتماعية والسياسية والعمل على تقديم الخدمات ومعالجة مواضيع ملموسة في مجالات حياتية مثل الصحة أو التعليم أو التنمية الاقتصادية.
5- التزام المنظمات بأخلاقيات المهنة، وبناء شراكات وتحالفات طويلة الأمد، سواء لتوسيع قاعدة الدعم أو الاسناد والحماية، وتشجيع المشاركة من مختلف فئات المجتمع.
6- تسليط الضوء على دور وسائل الإعلام التي تساعد المنظمات في الوصول إلى جمهور أوسع.
7- تسليط الضوء على دور القطاع الخاص الذي قد يكون حليفا مهما في الدعم والتمويل ويساهم بتعزيز نمو واستدامة المنظمات غير الحكومية.
8- ينبغي للجماعات المدنية أن تتحدى بشكل مباشر وغير مباشر نظريات المؤامرة والإشاعات التي تشوه سمعتها، من خلال الأفكار والأفعال والحجج والبراهين.
9- اجتياز العقبات التي تعترض الوصول إلى الموارد المالية، بشكل مشروع ومستدام.
10- تخطي صعوبات الوصول إلى صناع القرار، وإدراج القرارات في القوانين وصنع السياسات.
خاتمة
ساهمت منظمات المجتمع المدني بأدوار تكميلية عندما تكون المؤسسات الحكومية ضعيفة أو غير قادرة لوحدها في إدارة الأزمات، أو عندما تحتاج حملات مناصرة تجاه قضايا داخلية أو خارجية، أو عندما لا تتمكن مؤسسات الدولة من الوصول إلى معلومات أو بيانات معينة، أو انعدام التمويل والموارد.
في المملكة المتحدة مثلا يوجد أكثر من 166.000 منظمة تطوعية ويعمل في هذا القطاع ما يقرب من 910.000 شخص، على الرغم من أن العديد منهم يعملون على أساس تطوعي حيث يتم قضاء أكثر من 2 مليار ساعة تطوعية كل عام أي ما يعادل إجمالي العمالة في قطاع التصنيع، وقطاعي البناء والعقارات. ساهم القطاع التطوعي بمبلغ 18.2 مليار جنيه إسترليني في الاقتصاد في 2017/2018، وهو ما يمثل حوالي 0.9٪ من إجمالي الناتج المحلي، وتلعب منظمات المجتمع المدني دورا مهما في الاقتصاد وغالبا ما تقوم بردم الفجوات. بحسب لجنة السياسات التنظيمية للحكومة البريطانية.
ومقارنة من حيث المساحة وعدد نفوس المواطنين سنجد انها أقل بكثير من البلدان ذات الاقتصادات الكبيرة والتي لا تعير أهمية لوجود المنظمات.
من خلال ما تقدم يجب التفكير بعواقب ومخاطر فرض القيود على منظمات المجتمع المدني، ولعل الأمر الأكثر خطورة تقييد صلاحياتها الرقابية تجاه الجهات ذات النفوذ غير المشروع أو تنخرط في أنشطة مشبوهة أو تقوم بصفقات فساد، وقبل ذلك يجب أن تكون المنظمات محمية وفق القوانين والتشريعات، وخلاف ذلك سيكون البديل هو الطبيعة الاستبدادية للسلطة، والفساد، والبيروقراطية، وكل من شأنه يقوض بناء الدولة الحديثة.