أمبرتو إيكو.. سيناريوهات الحرب القيامية الشاملة
حكمت السيد صاحب البخاتي
2015-10-14 09:18
نقرأ العقل الغربي بعد عقد من كتاباته وتوقعاته، فالحاضر يكشف عن مدى صحة هذه التوقعات بعد عقد من الزمن او خطأها، ثم يمكننا بعد ذلك من معرفة قدرة هذا العقل على استشراف المستقبل بقراءته الخاصة به وتحليله الذي يستند الى ذلك الافق الواسع من معارفه وثقافته..
كتب امبرتو ايكو الفيلسوف والروائي الايطالي عن سيناريوهات مرتقبة لحرب شاملة ومتوقعة من جانبه، فقد نشرت جريدة المستقبل اللبنانية في ملحقها "نوافذ" نصا مترجما له بعنوان "سيناريوهات قيامية للحرب الشاملة" وقد ترجمه الى العربية أ.صالح بشير. وعلى طريقة تناول الحدث العام والفاعل في حياة مجتمعات الغرب وبلغة مثقف انساني يطرح سؤاله حول مايحرك ضمير هذه المجتمعات ويعبر عنه بصيغة جمع لمفرد ضمير فيقول "ضمائر" وهو يعني الافراد الاوربيين جميعا.
وطريقة المثقف الغربي في تناوله الحدث حتى الخاص بمجتمعه، انه يتناوله بعمومية انسانية يبدأ بها من خلال قنوات عديدة معلنة او خفية في حياة مجتمعه الغربي، تشكل الحدث او تسهم في تشكيله، مع اقصاء مقصود للتناول السياسي، لان التناول السياسي بطبيعته غير حيادي. من هنا نجد شحة في الموقف الثقافي الغربي تجاه السياسي لاسيما مايتعلق بالخلاف السياسي بين الشرق والغرب، والطريقة المتممة في هذا التناول الثقافي هو نقد الذات كأبرز مسلمة حديثة يتقوم بها العقل الغربي. وفي ضمنيات هذا النقد الذاتي، فان المثقف الاوربي لا يسعى الى ادخال تأثيرات خارجية في تحليله، او يبرر الحدث بصراعات خارج الغرب مع تورط الغرب بهذه الصراعات، فالحدث بالدرجة الاولى المسؤول عنه والمكون له هو الغرب في ضميمة النقد الاوربي للذات الخاصة به.
اقتصاره على ما يقول الغرب
هكذا يبدأ إيكو نقاشه في تناول مايقوله الغرب في العنف والارهاب وضرورة دحره، فانه ينوه في بداية مقاله بالاجماع في الغرب القائم على ضرورة دحر الارهاب ولو بقدر من العنف المبرر في مواجهة الارهاب، لكنه يركز على سؤالين معنيين بالموضوع، الاول: مدى عدالة هذا العنف في هذه المواجهة، والثاني: هل يتطور الى مستوى صراع حضارات وثقافات او بشكل اكثر وضوحا "حربا بين الشرق والغرب"؟ ويستخدم في توصيفهما عالم مسيحي وعالم اسلامي، ويدخل في العالم المسيحي كل افراد الغرب واتجاهاته بما فيه من ملاحدة ولاأدرية، وكذلك يفعل مع العالم الاسلامي بحيث يعمم على كل اولئك الذين لا يلتزمون بتعاليم الدين الاسلامي، وفق إيكو، وبذلك فانه يحيل المواجهة الى العناصر الثقافية غير المنسجمة بين الغرب والشرق.
وفي توقعات سيناريوهات إيكو فان هناك معركة تكتسب صفة الحسم في المواجهة بين الخير والشر مع ملاحظته ويضعها بين قوسين (وكل من الطرفين يعتبر الشر الطرف المقابل) ويصف ايضا هذه المعركة ب" القيامية " للتدليل على اهوالها التي تحاكي اهوال القيامة في توظيفه لهذه الرمزية الدينية، وهو يطرح تصورات الخيال في هذه السيناريوهات ويقاربها من تصورات الخيال العلمي التي تصلح من وجهة نظره ان يقول "ما الذي يمكن ان يحدث". وفي تسييد عناصر الثقافة في تحليله، فانه يستعيد ذكرى الماضي في المواجهة التي كانت قائمة بين اوربا المسيحية ومنطقة الشرق الاسلامية، واذ يصف عمليات اوربا العسكرية في الحروب الصليبية بالهجومية، فانه يصف عمليات الدولة العثمانية العسكرية بالاحتوائية، لكنها رسمت الفواصل القائمة بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي.
لكنه يتناسى دور الاستشراق كرؤية ثقافية غربية في تعميق وترسيخ هذا الفصل بين الشرق والغرب، وكاد ان يقضى على هذا النزاع من وجهة نظر ايكو مع تغلب اوربا الاستعمارية على البلاد الاسلامية في القرن العشرين، وكان يمكن ان يعد ذلك نجاحا عبر السلطة التقنية والتكنولوجية التي فرض بها الغرب نفسه على الشرق الاسلامي، الا ان عمل بن لادن باستخدامه التكنولوجيا الغربية في ضرب اميركا صدم الغرب وفق إيكو، وأعاد نقد إيكو كأوربي لذاته الاجتماعية والثقافية، فهو يلوم منتجي الاسلحة الغربية على صفقات البيع للتقنيات العسكرية المتقدمة في مقابل ربحهم بشراء يخت جديد طوله متر وهذا قوله، ثم هو يستهزئ في رفضه سياستهم وتجارتهم حين يقول لهم "واذا كانت الامور تسعدكم على هذا النحو فبشرى لكم لقد ربحتم".
سيناريوهات الخيال المتوقع او الممكن الحدوث
بعد ان يغادر إيكو شرح تاريخ المواجهة بين الغرب المسيحي والشرق الاسلامي والعنصر الثقافي الذي انتجته هذه المواجهة، ومن ثم صار منتجا لهذه المواجهة وهو مايعول عليه ايكو، أي العنصر الثقافي في رسمه او توقعه سيناريوهات محتملة في الحرب او المعركة القيامية الحاسمة وفق تسميته، واذا كان منطلقها ثقافي فان الصور التي يضخها الخيال بالنسبة لايكو هي الحاسمة في رسم او توقع سيناريوهات إمبرتو إيكو، وهي تعتمد على مايؤدي اليه استخدام اسلحة الدمار النووية والكيمياوية والجرثومية. ورغم ان الغرب يتوقع له ايكو في هذا الخيال انتصارا ماحيا للشرق الاسلامي، وخسارة الغرب الماحية جزئيا له، لكن هذا السيناريو يصطدم بلا عقلانية هذا الخيال، فيكف الغرب عن خوض هكذا حرب او تمنعه حسابات الخسارة الفائقة عن الدخول في مثل هكذا سيناريو وفق ايكو..
ومن أجل ان تسلم أوربا اذا حدثت هذه الحرب وتنتصر انتصارا واقعيا يدفع عنها الخسارة الفائقة، فان إيكو يتوجه بنصيحة الغرب الى "إعادة هيكلة كل إقتصاده على نحو يلغي الاعتماد على النفط" ويرى في إمكانية الطاقة الكهربائية والنووية بديلا محتملا وقويا عن النفط ويعيب على الشركات النفطية من أجل ارباحها "استعدادها للقبول بأسلمة العالم باسره".
ونصيحة ايكو في هذه النقطة حول الطاقة انما مصدرها هو هاجس الخوف الغربي من امتلاك الشرق الاسلامي للنفط، وهو ما يجعله مصدر حاجة شديدة بالنسبة للغرب، ولعله ما يحيل بين الغرب والاقدام على الحرب على الشرق هو النفط حتى من وجهة نظر ايكو... لكن اذا حدثت المعركة القيامية تلك والحاسمة فإنها ستنتقل الى مستوى اخر هو القتال بين الشعوب التي لم تحدث في الماضي الا بشكل نسبي، وسيكون معيار القتل وفق ترسيمة إيكو الخيالية هو اللون ولون العينيين ووضع الشارب والزي الذي يحمل دلالته الثقافية في تصنيف طبيعة هذه المعركة، ان الزي يكون في هذه الحالة الفاصل بين الثقافات بل سيعتبر اللون والزي المائزان الاساسيان والحديان بين ثقافتين تتقاتلان إستنتاجا عن إيكو الخيالي في هذه المعركة بقوة. ان المسيحي والمسلم يكتفيان باللون والزي في إجراءات القتل دون انتظار معرفة هوية هذا الانسان المقتول للون وزيه. وانهما وفق ايكو سيقولان كلاهما ان الله سيغفر لنا اذا اشتبهنا وقتلنا من بني ديننا وجنسنا.
سيناريوهات المعالجة
يسرد إيكو عددا من الوسائل التي يمكن ان يعالج بها الغرب هذه الازمة العالمية او الكلية، لكنها بالنتيجة ستفشل أمام هذه الازمة القيامية. وبالمناسبة فان ايكو لا يناقش ما يمكن ان يضعه الشرق الاسلامي الجامح من معالجات ووسائل تقيه او تقي العالم الحرب، لان الشرق كما يتوقع كل غربي بما فيهم ايكو هو مصدر الحرب.
ان سيناريوهات المعالجة يختصرها ايكو على الغرب وهنا نتلمس تلك الذاتية الغربية المفرطة في انتماء المثقف الاوربي وهو مايصدم حقيقة تمثله لدور المثقف الانساني العام.
انه يشير الى مايمكن "ان يتوصل اليه مسلم عاقل على الجانب الاخر من المتراس" هنا يتحدث بشكل بصيغة المفرد عن مسلم فرد عاقل وليس مجتمع شرق اسلامي مثل حديثه عن مجتمع الغرب. ثم هو يؤشر مدى إمكانية ليس بالضرورة قابلة للفعل، لكنه يتوقع سلسلة من الحروب الاهلية ستحدث في منطقتنا الاسلامية ضمن هذا السيناريو وسببها الجبهة الاسلامية الاصولية، وحين يتحدث عن هذه الحرب المتوقعة فان هناك سيناريو للسلام اوربيا حصرا. فهو حين يتحدث عن مناهضة الحرب فانه لا يتحدث عن فرد عاقل بل عن "مجموعات مناصرة للمسلمين ليس بدافع الايمان بل مناهضة للحرب" لكنه يعود الى انكسار الغرب المعنوي في حالة هذه الحرب او انتهائها ويتساءل: هل يرضى مجتمع الغرب بنهاية رخاء اقتصادي معلق لازال على النفط الشرقي الاسلامي والمعرض للدمار والخراب؟ انه يقول "نتصور أفغانيا او لاجئا فلسطينيا يمكنه العيش ضمن اقتصاد الحرب لان ذلك لايغير بالنسبة اليهما شيئا.... ولكن نحن؟؟"؟
توقعات النتائج
يمر في مقالته على التجربة الاميركية حيال مأساة الحادي عشر من ايلول، لكنها لاتغني في خلاصتها عن اسلوب بديل او اسلوب كاف في مواجهة نتائج الحرب القيامية، ثم هو يتوقع بقاء لاشك فيه للغرب لكن الشرق في رأيه ايضا من الممكن ان يبقى، وفي حالة بقاء غرب وشرق بهذه النتيجة فان الشرق سيظهر "لنا اسلاما أقل توحدا مما يعتقد عادة" ولكن من المتوقع لديه ايضا انه ستظهر مسيحية مشتتة وعصابية.
لازال الغرب ومع كل هذه النتائج المؤلمة والقيامية الحاسمة والمذهلة، لازال الغرب يعتقد ان الاسلام واحد وغير متعدد او متنوع، ولازال فيلسوف كبير مثل إيكو يتوقع إلتصاقا كبيرا للدين في العالم المنقسم الى شرق وغرب بسبب الدين، والذي تكمن اسباب حربه القيامية والحاسمة والمدمرة لهما في الدين وان كان بنسبة أكبر وأعظم في الشرق. ولان السبب فيها ثقافي – ديني فانه تبلغ من الاهوال مايقارب الخيال بسبب السلاح الرهيب النووي والمدمر الجرثومي والكيمياوي الذي يمتلكه الغرب والذي يخشى ايكو كاوربي من وقوعه بيد الاصولية الاسلامية.
ولانه سيناريو خيال وسيناريو قد ينفصل عن الواقع في معطياته، يتردد ايكو في تبني هذا السيناريو ويحيله الى "مجرد سكتة عارضة" بعد ان يحيله في توقعاته الى كاتب هو روبيرتو فاكا كتب قبل ثلاثين سنة من مقالة ايكو هذه كتابا بعنوان "العصر الوسيط الوشيك المقبل" تصور فيه مثل هذه السيناريوهات...