أبو الغوز

د. جليل وادي

2024-03-24 07:38

هكذا يحلو لمحبيه أن يطلقوا عليه (أبو الغوز)، مع ان له خمسة أبناء ليس فيهم من هو بهذا الاسم، ثمة تسميات محبة تمس شغاف القلب، فترى تباشيرها على وجه المُكنى . سماه أبوه غازيا اعتزازا بالملك العراقي المغدور الذي لم يتول أحد دمه، مطالبا باعتذار رسمي واعتراف صريح بالجريمة ممن غدره، على الرغم من مرور أكثر من ثمانين عاما على سقوط عمود الكهرباء الذي اصطدمت به سيارته . يُروى ان وطنيته كانت تغلي بين جوانحه، وتملكه حب كبير لشعبه، لذا دبروا له مكيدة عمود الكهرباء الذي لم يستقر في بلادنا منذ ذلك الحين .

واعتزازا به سمّى آلاف العراقيين أبنائهم على أسمه، ومنهم غازي أسطة البناء الشغوف بمهنته، والدقيق في عمله، والغــــــيور عند نخوته، والجميل في ذوقه، والصادق في موعده، حتى انك لا تجد عنده فراغا للمباشـــــــــرة بعـــــملك الا بعد موعد قد يمتد أشهرا، ومع ذلك ترضى بالتأخير، طمعا في عمـــــل نظيف وجودة عالية، ما يشغله كيف يكون انجازه متكاملا، ومن عمله عرفت : ان الاخلاص في العمل باب من أبواب الرزق .

أينك أبو الغوز؟ أنطق بكنيته صباح كل يوم عند نظري من نافذة السيارة الى ( فروة السبع )، وأقصد النافورة الصغيرة التي لا يعدو طولها عشرة أمتار وتنفذها بلدية احدى المحافظات، مضى على النافورة ما يقرب الشهرين دون أن تُنجز، مع ان انجازها لا يستغرق اسبوعا واحدا عند ( ابو الغوز ) .

ليس في النافورة ما هو جديد، تقليدية بكل تفاصيلها، وواثق من انها لن تضيف جمالا للمكان، ومع ذلك قَبِل الناس بها من باب اضافة شيء أفضل من لا شيء، ويواسون أنفسهم بالقول : قد ترطب أجواء المكان المحاط بالأسفلت والكونكريت ودخان عوادم السيارات، بالرغم من ضرورة الاهتمام بجمال الأشكال، لكن للأسف لا نلقي بالا للجوانب الجمالية في أعمالنا، لذلك ترى بلادنا أكثر البلدان تلوثا بصريا، بينما تشكلت في الدول التي تحترم الانسان هيئات لتجميل المدن، وتحتار أين تلتقط صورة، لتقول : كنت هنا، في هذه الأماكن المبهرة في أشكالها .

وعلى ذكر الصور لفتني عند مروري مؤخرا بمدينة بابل الأثرية تمثال ملكها العظيم حمورابي لألتقط معه صورة تذكارية وهو يقف شامخا، كما جعلنا شامخين مثله بالرغم من انكساراتنا، فما عليك الا أن تقول انك بابلي حتى يقف لك العالم تقديرا، فلِمَ لا يحترم المسؤولون هذه الحقائق، عموما انشغلت بالملك ووقفته وتاريخه ولم أنتبه لما يحيط به الا بعد أن تأملت بالصورة، فرأيت الساحة التي يتوسطها سبخاء طفح ملحها الى سطحها، وذبلت الشجيرات التي تحيط بها على قلتها، وكأنها لم تذق الماء منذ عام، وتوقفت النافورة التي شيدت قبالة التمثال، وتكسرت بعض قطع السيراميك التي تغلفها، وتيبس حوضها، وأكيد ان ماطور ضخ الماء فيها عاطل، أهكذا يجري التعامل مع رموزنا الذين لو كانوا عند غيرنا لأضفوا عليها قدسية ما بعدها قدسية ؟ .

الملل واليأس جعلنا لا نسأل عن جودة العمل، وانما انجازه ضمن توقيتات مقبولة، مثلما بتنا نسمع : ( اسرقوا لكن اعملوا)، ما هذا الكلام المخزي ؟ في مشروع عبارة عن مد انبوب من تحت شارعين رئيسيين عانا أصحاب المركبات الأمرين على مدى شهر كامل، وأظن ان ما أستهلك من مركباتهم يفوق كلفة المشروع، والأغرب عندما انتهى العمل لم يعد الشارعين كما كانا، بل صار مكان العمل مطبا يقتضي تخفيف السرعة الى أدناها لاجتيازه، لماذا ؟ لا أحد يدري، مع ان جميع المسؤولين يمرون من هذا الطريق يوميا، لكن يبدو ان سياراتهم الحديثة لا تشعرهم بالمطب، ما نحتاجه ليس المال، وانما غيرة (أبو الغوز) .

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا