الوعي الاجتماعي وعقلانية النظام السياسي

مرتضى معاش

2024-03-06 08:48

 إن موضوع الوعي بحد ذاته بسيط جدا، لكنه في نفس الوقت كما هو بسيط فإنه معقد جدا، فالوعي هو أفضل النعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على الإنسان، لأنه من خلال الوعي يدرك قيمة الحياة ويفهمها ويراها بصورتها الصحيحة والسليمة والواقعية.

إذا اردنا أن نعطي للوعي معنى حتى ندخل في صلب الموضوع، فإن الوعي هو قدرة العقل على إدارة الغرائز والتحكّم بها، ولذلك فإن ما ينتج من قدرة العقل على التحكم بالغرائز، هو ما يسمى بالحكمة، والحكمة تعني اللجام الذي يُلجَم به الحصان، فيكبح جموح الحصان ويسيطر عليه من الانفلات. فإذا استطاع الإنسان أن يتحكم بغرائزه، ويجعلها وسيلة لغاياته العقلانية، سوف يؤدي بالنتيجة إلى أن يكون واعيا في كل لحظة من لحظات حياته بحقيقتها، ويدرك ما يمارسه وما يستهدفه، ولذلك ذكرتُ بأن الوعي مسألة معقدة في ظل تلك المغريات والاغواءات التي تتلاعب بغرائزه وتشوش عقله.

غالبا تنشأ المجتمعات في ظل التحديات الموجودة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على الحالة الغرائزية، فالإنسان عندما ينشأ يبدأ بالبحث عن قوت يومه، فلا يهتم بما هو خارج إطار الغريزة، ولا يفكر أو يهتم بحريته، أو يكون عنده قلق من الغايات الوجودية أو محاولة فهمها.

لذلك يضيّع الإنسان لحظات الوعي في كل شيء، حتى في لبسه وأسلوب تناوله الطعام، بل حتى في طريقة سيره في الشارع. ومن هنا يحتاج الإنسان أن يفهم كيفية التعامل حتى التفاصيل الصغيرة ولاتستحوذ عليه اللذات الآنية أو العيش بلا تعلم او يقظة ذاتية، فمن لايعرف التعامل بفهم مع التفاصيل الصغيرة، فكيف يستطيع التعامل مع الأشياء الكبيرة في الحياة.

الرضوخ الاكتسابي للاستبداد

ان النظام السياسي السيّئ الحاكم سواء كان نظاما استبداديا أو ديمقراطيا، هو نتيجة لتخلي الناس عن المشاركة السياسية، فالناس عندما يهتمون بقضاياهم الخاصة فحسب، فإنهم يتخلون عن يتخلون عن مسؤولياتهم الأساسية التي ترتبط بقضاياهم المصيرية ومنها المشاركة السياسية، والسبب لأنه تعلّم بأنه ليس له شأن في الهم السياسي، وهو مجرد ترف، وان هناك أشخاص خاصين يحكمون ويقررون وهو ليس له علاقة بهذه الامور، وليس من اختصاصه ولا من أولوياته أن يدخل في هذا العالم ويعتبره بعيدا عنه.

فالإنسان على طول امتداد التاريخ وعبر الاكتساب الثقافي السياسي المتراكم، تعلم أن يرضخ ويخضع لواقع الاستبداد، لكي يسلم ويأمن، لكنه لا يعلم بأن جهله هو الذي يقوده نحو الدمار والفقر والبؤس، لذلك فهو دائما يتخلى عن مسؤولياته وأهميته الشخصية أو وضعه الاجتماعي، لصالح المستبد أو النظام السياسي الفاسد.

وهذا الرضوخ سببه ضغط المصالح الآنية، الذي يجعل الإنسان يفرّط في المصالح البعيدة المدى، ولكن من مصلحة الإنسان البعيدة المدى أنه يدرس ويعمل عشرين أو ثلاثين سنة حتى يحصل على ثمرة حياته، ولكن هناك إنسان يفكر في رزقه وبمعيشته اليومية فحسب، ومن ثم يفرّط بالمصلحة الخاصة والعامة المستقبلية.

الشعب يريد الاستهلاك

ان أغلب الانتخابات الموجودة في دول العالم، هي انتخابات متوترة جدا، حتى في أفضل الأنظمة الديمقراطية، من بريطانيا إلى أمريكا مثلا، فالنخب السياسية الحاكمة والأحزاب الحاكمة ترضخ لضغط الناخبين الذين يبحثون عن مصالح آنية فحسب.

فالناس يريدون أن يشتروا البنزين أو الطاقة بسعر رخيص، ويريد أن يدخل (السوبر ماركت) ويتسوق ويرتاد المطاعم كما يشاء، فلا يفيده التضخم ولا ارتفاع الأسعار، فيضغط على صاحب القرار السياسي، الذي يتماشى مع ما يريده الناس ومع المصالح الآنية من أجل بقائه في السلطة.

بالنتيجة يؤدي هذا إلى هشاشة منتوج ومخرجات العملية السياسية وبالتالي البقاء في ارتهان المشكلة. طبعا تختلف هذه القضية من شعب إلى شعب، ومن مجتمع إلى آخر. فهذا هو التعامل الغرائزي وليس التعامل العقلاني، والوعي السياسي يعني التعامل العقلاني مع الواقع السياسي، ولكن الغرائز والحاجات السريعة ومتطلبات الاستهلاك المنتشرة والمتزايدة هي التي تحكم مجتمعات عالم اليوم.

التجهيل الخوارزمي

كذلك من المشكلات الموجودة في قضية الوعي السياسي، سياسات التجهيل المنتشرة بقوة، وهي تسمى اليوم بسياسات التضليل، ولكن مفردة التجهيل هي أكثر عمقا من التضليل، فالتضليل هو نتيجة لاستغلال قضايا التجهيل، لذلك دائما تجد التجهيل موجودا بقوة في المجتمعات، حتى المجتمعات المتقدمة يوجد فيها التجهيل.

ومن ضمنها التجهيل الذاتي، أي أن الإنسان هو يريد أن يبقى جاهلا حتى لا تزداد مسؤولياته، ولا يحب أن يطلع على مشكلات عالم اليوم وقضاياه، ولا يهتم بأن يكون عارفا وإنما يكون جاهلا.

طبعا الحكومات والاحزاب والمنظمات أو بعضها، تعتمد على أسلوب وسياسات التجهيل من أجل أن يبقى الإنسان مجرد صوت انتخابي، أو هو مجرد فرد خاضع للنخبة الحاكمة أو الحزب الحاكم، أو الأحزاب الحاكمة، فيبقى جاهلا ولا يستمع لأكثر مما هو موجود.

مثلا خوارزميات الإنترنيت الموجودة الآن في العالم، دائما تركز على قضية التجهيل في كل مجتمع، وطبقوها كثيرا وهي موجودة في الصين مثلا، فهناك خوارزمية خاصة بالشعب الصيني تعطي معلومات خاصة ومعينة بما يتناسب مع ما يريده النظام الحاكم.

مثال آخر هناك خوارزمية موجودة عن حرب غزة، وهي تعطي معلومات للشرق الأوسط، تختلف عن المعلومات التي تعطيها لأمريكا والغرب، فهي خوارزميات متحكم بها تؤدي الى ترسيخ التجهيل، بالنتيجة يؤدي هذا إلى ضآلة الوعي السياسي، أو انعدام الوعي السياسي عند الإنسان، وعدم فهمه لكثير من الأمور.

الفردية والانعزال

كذلك هنالك حالة من ازدياد الفردية في العالم، فالعالم الاستهلاكي الذي رسخته الرأسمالية يشجع على الفردية دائما، لأن الفرد في النظام الرأسمالي دائما يصرف أكثر مما تستهلكه الأسرة، فانعزال الفرد في الهم الخاص والتضخم الفردي يؤدي إلى ابتعاده عن المشاركة في الشأن العام، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى استمرار سياسات افتقاد الوعي السياسي وعدم معرفة واقع الأمور.

التغذية الثقافية السيئة

ومن الأسباب الأخرى التغذية الثقافية الشعبية المترسخة في داخل أفكار الناس، حيث يؤدي إلى استمرار معادلات عدم الوعي السياسي بأهمية الانتخابات. فالانتخابات دائما تكون سيئة نتيجة للانطباع الشعبي العام عن فساد العملية الانتخابية، وعدم فهم الفرد لدوره في التأثير الذي يمكن ان يحدثه بالخريطة السياسية من خلال مشاركته الواعية في الانتخابات.

العيش بلا وعي على حافة الهاوية

ان النظام السياسي السيّئ دائما يؤدي إلى الانهيار، الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبالنتيجة انهيار الديمقراطية وتحولها إلى مجرد مظهر، وهذه نتيجة واقعية.

نلاحظ الفرق بين بعض الدول المتقدمة والمتخلفة، هو نتيجة لوجود وعي سياسي نسبي قادر على أن يحفظ هذا المجتمع أو هذه الدولة بنسبة معينة في إطار تداول سلمي للسلطة، او في عملية انتخابات جيدة أو لا بأس بها، ولكن عندما يصبح النظام سيئا، مع عدم وجود وعي سياسي، وعدم وجود وعي عند النخبة لاستثمار الديمقراطية لبناء الدولة، فهذا يؤدي بالنتيجة إلى حافة الهاوية والوقوع في دوامة الكوارث التي تعقب حالة الفساد الذي أصبح سرطانيا، حيث يؤدي بالنتيجة إلى انهيار ذلك المجتمع أو تلك الدولة، وقد لاحظنا مؤخرا بعض الانهيارات.

متطلبات الوعي السياسي

ولهذا فإن الوعي السياسي وترسيخه لدى الناس، يتطلب ما يلي:

أولا: وجود المؤسسات الرصينة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية تؤدي إلى توفير حاضنات جيدة للتعليم، مثل المنظمات غير الحكومية، منظمات اجتماعية، إلى مدارس جيدة، إلى تعليم جيد، إلى ثقافة جيدة في المجتمع، تحرك عملية الوعي والفهم عند الناس.

ثانيا: الأحزاب الوطنية، ونقصد الأحزاب التي تحمل أهدافا وطنية وليست أهدافا سلطوية، لحماية رصانة هذه المؤسسات، وعدم تحويل هذه المؤسسات إلى مجرد حصان تركبه هذه الأحزاب.

 ثالثا: انتخابات متوازنة، فالأحزاب غير الوطنية هي التي تؤدي بالنتيجة إلى انتخابات سيئة، لأنه يشرع قانون انتخابي سيّئ، وعملية انتخابية سيئة، ومن ثم التلاعب بالعملية السياسية، والتلاعب بوعي الناس، وإيصالهم في التعامل مع السياسة إلى مستوى قائم على الغرائز وليس على الفهم، واستخدام الرأي العام كوسيلة يحشد فيها عواطف الناس من خلال قضية طائفية أو عرقية أو قومية أو دينية، واستثمارها في كسب الأصوات الانتخابية.

اما الاحزاب الوطنية التي تعمل لصالح المجتمع، فهذا يؤدي إلى قيام انتخابات متوازنة وتداول سلمي للسلطة، واستمرار التراكم المتصاعد الجيد للنظام السياسي والتحرك السياسي المتطور، وكلما يزداد التراكم العمودي، (التوسع الديمقراطي الموجود بالعراق الآن أفقي، وليس عموديا)، ترتفع درجة الوعي عند المواطن وعند الناس فيكون مساهما اجتماعيا بصورة أكثر، ومشاركا أكبر في بناء الحكم الصالح.

أما إذا بقت الأحزاب تتلاعب بوعي المواطن، وتؤجج فوضوية العملية السياسية، فهذا يؤدي إلى حالة من الانسداد السياسي الذي قد يؤدي إلى انقلاب عسكري ومن ثم حرب أهلية مستمرة كما يحدث في السودان حيث لا يُعلم متى تنتهي هذه الحرب التي حولت البلاد الى خراب مطلق.

* مداخلة بتصرف مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث جلسة حوارية في ملتقى النبأ الأسبوعي تحت عنوان (دور الوعي السياسي في تطور التفكير الديمقراطي)

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا