نسب المقاطعة ودلالات الممانعة
منقذ داغر
2023-12-02 04:54
كعادة المجموعة المستقلة للأبحاث ومؤسسة غالوب الدولية فقد تم مؤخراً أجراء أستطلاع نوايا الناخبين العراقيين بخصوص الانتخابات المحلية التي ستجرى هذا الشهر، جاءت النتائج لتؤكد أن هذه الانتخابات ستكون الأقل مشاركةً والأكثر مقاطعةً من قبل الناخبين العراقيين مقارنةً بكل الانتخابات البرلمانية والمحلية التي أجريت في العراق منذ 2005.
فعلى الرغم من أن هذه النسب المتوقعة للمشاركة هي نسب أولية قد تتغير خلال الاسبوعين القادمين لأي سبب، فأن التوقعات تشير الى أن الانتخابات لو أجريت يوم غد فستتراوح نسبة المشاركين في الانتخابات بين 15-20% فقط من مجموع العراقيين الذين يبلغون ثمانية عشر عاماً فأعلى. فأذا عرفنا ان نسبةً مهمةً من هؤلاء سوف لن تكون مؤهلة للانتخاب بسبب عدم حصولها على بطاقة الناخب فأن نسب المشاركة المتوقعة قد تقل حتى عن 15%.
وأذا عرفنا أن نسبة العراقيين المرتبطين بالاحزاب السياسية المتنافسة (عدا الصدريين الذين أعلنوا مقاطعتهم) تتراوح عادةّ بين 5-10% من مجموع الناخبين فأن ثلثي المصوتين سيكونون من الجمهور الحزبي، وثلث فقط (أي بحدود 5% من المجموع الكلي للمؤهلين للتصويت) هم ممن يسمون بجمهور المستقلين. ماذا تعني هذه الأرقام؟ أنها بأختصار تعني ان مجالس المحافظات سوف لن تكون فقط أستنساخاً لخريطة القوى الحزبية في البرلمان الحالي، بل قد تتعدى آثارها ذلك بكثير.
وعلى الرغم من ان النتائج تشير الى تباين في نسب المشاركة بين المحافظات حيث ستكون بغداد مثلاً هي أقل المحافظات مشاركةً أذ لا يتوقع أن تصل نسبة المشاركة الى 15%، الا أن العزوف عن المشاركة سيشمل جميع المحافظات تقريباً.
هنا يقفز السؤال عن سر هذا السلوك المقاطع للانتخابات على الرغم من معرفة المقاطعين أن سلوكهم هذا سوف لن يحسّن الأوضاع السياسية التي أدت لمقاطعتهم، ان لم يزدها سوءً عما هي عليه الآن؟ يبدو فعل المقاطعة فعلاً سلبياً كونه لن يزيد الا من فرص الاحزاب القابضة على السلطة والتي يود الناخب معاقبتها على سوء أداءها وفسادها وهيمنتها على مقدرات البلاد.
فبدلاً من السعي لتغيير هذه الاحزاب والقوى من خلال صندوق الانتخابات، فأن فعل المقاطعة سوف يكرس هيمنة تلك القوى ويكافئها بدلاً عن ذلك من خلال فسح المجال لناخبيها لكي ينفردوا بصناديق الانتخابات وبدون أي منافسة. وفقاً لهذا المنطق الأحصائي العقلاني فأن المقاطعة لا تبدو فعلاً عقلانياً راشدا! هذا صحيح، لكن من قال لكم أن السلوك الأنساني عموماً، والسلوك الانتخابي يخضع دوماً لمنطق الرياضيات والعقلانية؟!
يخضع السلوك الأنساني لعوامل نفسية - اجتماعية كثيرة تجعله يغفل الحسابات الرياضية العقلانية. فلطالما قام الانسان بتصرفات وهو يعلم يقيناً أنها لن تجلب له منفعة أو تدفع عنه ضرراً سوى تحقيقها لحاجة نفسية ملحة نسميها حاجة التميز أو الأهمية SIGIFICANCE NEED وهي واحدة من مجموعة دوافع نفسية تتحكم بسلوكنا الأنساني.
هل مر بكم يوماً شخص يولم لاصدقاءه ومعارفه ويبذخ في وليمته رغم أنه قد يبقى كل الشهر بدون مال كافي له ولعياله؟! أن شعور الأفراد (والجماعات أيضاً) بأنهم مهمون، ومرغوبون، ومقدرون - أمر بالغ الأهمية للنمو الشخصي ولتحقيق صحة عقلية وعاطفية جيدة.
تتباين سلوكيات الناس لتحقيق الأحساس بالاهمية مثل القيام بأعمال بطولية، أو أعمال خيرية، أو تحقيق أنجازات معينة. ويبرز الدافع لتحقيق (الأهمية) بأوضح أشكاله حينما يشعر الفرد أن هناك من يسلب منه أهميته أو يتجاهله أو يقلل من أحترامه. تشير أرقام الاستطلاعات التي قامت بها المجموعة المستقلة للابحاث أن حوالي 60% من العراقيين يشعرون أنهم لا يعاملون بكرامة من قبل من يمتلكون السلطة. وتزداد هذه النسبة الى حوالي الثلثين بين الشباب!
ان شعور العراقيين بالانتقاص من قيمتهم، وبالذات الشباب الذين تتزايد لديهم حاجة الشعور بالاهمية، يؤدي الى التفكير بأساليب قد تبدو غير مجدية ظاهرياً، لكنها مفيدة نفسياً ومنها الانتقام ممن سلبهم الشعور بالأهمية من خلال أي فعل ممكن، وهو هنا مقاطعة الانتخابات.
لكن يجب التنبيه ان تفاقم الشعور بعدم الأهمية وادراك ان مقاطعة الانتخابات لم تعد مجدية هي الأخرى أو غير كافية لاستعادة الشعور بالاهمية سيؤدي الى البحث عن أساليب أخرى منها، ما هو فردي مثل اللجوء للمخدرات أو الكحول، أو التطرف الفكري مثلاً فضلاً عن أشكال سلوكية أخرى تهدف لاستعادة الأهمية المفقودة.ومنها سلوكيات جماعية كالانضمام للجماعات (بمختلف أشكالها) التي يمكنها اعادة الشعور بالأهمية للفرد أو الجماعة. لقد عودتنا الطبقة الحاكمة على عدم أدراكها وألتقاطها للعلامات التحذيرية (كمقاطعة الأنتخابات هذه) التي يطلقها المجتمع بسبب حساباتهم المنفعية الآنية والضيقة. لذا علينا أن لا نفاجأ بتطور هذه المقاطعة، والتي هي سلوك احتجاجي وعقابي وانتقامي أولي الى سلوكيات أحتجاجية وأنتقامية أشد قوةً وأنفعالأً،وما تشرين عنا ببعيد.