ما بعد قمة جدة.. قراءة في المتغيرات الاقليمية والدولية

د. احمد عدنان الميالي

2023-08-10 07:37

شهدت الساحة الاقليمية والدولية تطورات وتفاعلات سياسية مختلفة بشكل متزامن ولعل اهمها على المستوى الاقليمي العربي، تمثل في الوساطة الصينية بين الجمهورية الاسلامية في ايران والمملكة العربية السعودية لإحلال التقارب والتفاهم بين الطرفين، ويبدو لهذا التقارب مفاتيح وتفاعلات ايجابية على المنطقة العربية تنسحب على الملفات المعقدة واهمها حرب اليمن، والازمة السياسية في لبنان وسوريا، وصولا الى امكانية حصول تقارب امريكي ايراني روسي ينعكس على الحرب الروسية الاوكرانية، قد ينتج عنه استقرار اقليمي ودولي يكون حاملاً وضابطا لتوازن للقوى في النظام الدولي.

وضمن سياق تطورات التفاعلات الاقليمية انعقاد قمة الجامعة العربية في جدة في دورتها الثانية والثلاثين التي اعتبرت من التطورات والتفاعلات المهمة، اذ شهدت حيثياتها عودة سوريا للجامعة العربية، كما انها تزامنت مع الاحداث في السودان وتطورات القضية الفلسطينية، والازمة اللبنانية والتونسية وحرب اليمن، اذ تشهد السودان ولازالت احداث دامية واقتتال داخلي بين عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ونائبه المقال حميدتي قائد قوات التدخل السريع يعكس طبيعة الصراع الدولي والاقليمي وتوازناته في هذا البلد.

كما تشهد الاراضي المحتلة تصعيدا صهيونياً ضد غزة مع دفاع حركات المقاومة، وانتهاكات صريحة لأبن غفير لباحة الحرم القدسي لأكثر من مرة، مع تطورات داخلية في اسرائيل اذ تشهد حكومة نتنياهو احتجاجات متواصلة ضد اصلاحاته القضائية الموسعة لصلاحياته، وفي تونس تستمر ملاحقة القضاء التونسي لحزب النهضة ومخاصمة قيس سعيد للإخوان المسلمين، ولازالت ازمة الشغور الرئاسي في لبنان مستمرة اضافة الى ازمة اقتصادية طاحنة تنذر بتصدع طائفي محتمل، فضلا عن حادثة مخيم عين الحلوة وانعكاساته على الوضع الفلسطيني واللبناني، اما اليمن رغم التقارب السعودي الايراني وتداعياته صوب حل الازمة لكن الامور لم تصل اكثر من حد ايقاف الحرب مؤقتاً رغم حصول مباحثات بين الطرفين في السعودية لتبادل الاسرى، لكن يبقى المسار السياسي متعثرا ومعقدا.

هذه التطورات لم تختصرها قمة جدة بالحلول او وضع خريطة طريق واضحة لمعالجتها، لكن الاطار الذي دفع بعقد هذه القمة على مستوى عالي من الحضور والمشاركة والاهتمام وعدم المقاطعة، مع عودة سوريا الى الجامعة العربية وحضور بشار الاسد لقمة جدة، وحضور الرئيس الاوكراني واقحام ملف الحرب الروسية الاوكرانية، وتغير طبيعة الخطاب السياسي نحو مزيد من التعاون العربي والاقليمي وحتى الدولي، يؤشر دون ادنى شك مسارات البحث عن حلول للازمات التي طرحت على جدول اعمال القمة، رغم عدم تحقيق اختراق واقعي لحل هذه الازمات.

مع ذلك تبقى تعقيدات وتحديات عديدة تخللت قمة جدة لتكون مخرجاتها منسجمة مع حجم التحديات والمخاطر، فعند النظر لمسألة حضور الرئيس الأوكراني، الذي فرضته السعودية، لم يكن على ذوق جميع القادة في القمة، وخاصة ان كثير منهم مقربون من روسيا، وايضا كان من المتوقع أن تهيمن عودة بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية على جدول أعمال القمة لكن سرعان ما وازن حضور الضيف زيلينسكي ومفاجأة مشاركته اعمال القمة مع وجود الاسد، حينما سبق مسار طريقه من اليابان لحضور قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى على متن طائرة استأجرتها فرنسا الى جدة، على أمل أن يحصل على اهتمام القادة العرب بدعواته لإدانة الغزو الروسي على الاقل.

لكن قوبل زيلينسكي بنظرات حذرة إلى حد ما: سوريا، الجزائر، العراق، لبنان وحتى الامارات يمتلكون علاقات وثيقة مع روسيا، ولم يكن أمام الدول الاخرى التي تقف موقف الحياد البراغماتي في الصراع بين أوكرانيا وروسيا، الا ان تتفرج، مع ان السعودية تعتبر روسيا الشريك الاستراتيجي الجديد في الشرق الأوسط، وهذا التحول قد يمثل انقلابا دبلوماسيا لمحمد بن سلمان، محاولا تجاوز طموحاته في احلال مشروع إعادة الهيكلة الإقليمية الذي كان يعمل عليه منذ أن عاد للانخراط مع إيران قبل ثلاثة اشهر حينما صرح انه "مستعد لمواصلة جهود الوساطة بين كييف وموسكو".

لكنه رغم ذلك يميل الى التوازن في علاقاته مع ايران وروسيا والصين من جهة والولايات المتحدة والغرب من جهة اخرى، فبذات الوقت أيد قرارات الأمم المتحدة التي تدين الغزو الروسي وضم الأراضي الأوكرانية، ولكنه قاوم الضغط الأمريكي لزيادة إنتاج النفط لخفض عائدات روسيا، حتى ان الكثير فسر حضور الرئيس الاوكراني اشارة واضحة لنهج التوازن وارضاء لواشنطن لرفضها عودة سوريا للجامعة العربية؛ رغم ان مقاربة الادارة الامريكية للرئيس بايدن ازاء سوريا وموقفها تجاه الاطراف التي كانت متورطة معها بشكل مباشر في شمال شرق سوريا، وترك فراغ في أجزاء أخرى من البلاد، إلى جانب عدم منحها الأولوية لسياسة الشرق الأوسط اسهم بشكل كبير في اعطاء المجال لروسيا وإيران كشريكين لتمرير سياساتهم في سوريا، بالنتيجة اسهمت إدارة بايدن في هذا التحول الإقليمي الذي أدى لاحقاً إلى تسريع إعادة دمج نظام الأسد مع دول الجامعة العربية واحلال التقارب مع المملكة العربية السعودية الذي لم يكن متوقعا.

في ضوء هذه المعطيات قد لا يتغير الكثير في النظام الاقليمي العربي نتيجة عودة سوريا في الوقت الحالي للجامعة العربية، لكن إبقاء الأسد معزولاً لن يغير شيء ايضا وتغييره لن يكون سهلا ايضا، ولهذا فإن مخرجات قمة جدة قد تشكل قناة اتصال مهمة لاعتراف الغرب بالأسد ثم رفع العقوبات وتمويل إعادة الإعمار في سوريا تدريجيا، لذلك من المتوقع ان يؤدي الامير الشاب دورا مهما في اعادة ضبط العلاقات السورية مع الغرب.

ان المعطيات والمتغيرات الاقليمية والدولية المتوقعة بعد قمة جدة لا تؤشر امكانية القطع بحصول تفاعلات مؤثرة في طبيعة المخرجات وتأثيرها على العلاقات الاقليمية والدولية ولن تأتي بشيء جديد، سوى تأكيد الحضور السعودي في المشهد الاقليمي العربي ومحاولة فرض اجندات الامير محمد بن سلمان ورؤيته للواقع العربي، واتضح ذلك بمستوى القبول والتعاطي مع كل الملفات المطروحة في القمة حتى في ادق التفاصيل حينما ادار القمة وكأنها ندوة حينما منح خمسة دقائق لكل متحدث من القادة العرب، ولم يكن البيان الختامي يحمل تفاصيل وحلول ومعطيات واقعية لحل الازمات السياسية في العالم العربي، ولم يتم التعاطي مع المتغيرات الاقليمية الجديدة ولا عن المتغيرات الدولية الحاصلة واثرها مقتصرا على ترحيب ودعم واسناد لعدة قضايا محددة، ولم يركز البيان الختامي للقمة على الازمات السياسية والملفات الساخنة بشكل تفصيلي، بل ركّز على جوانب مختلفة بلغةٍ قد تبدو جديدة على القمم العربية وتتمثل بالاتي:

أولاً: تغليب لغة التنمية والاقتصاد على الازمات والعقد والعقبات السياسية بغض النظر عن الظروف وطبيعة الاقتصادات العربية المختلفة.

ثانياً: التأكيد على ان الجوانب الاقتصادية هي مفتاح للحلول السياسية وتدعيم الروابط والاواصر بين الدول العربية، فالتطور الاقتصادي هو الملبي الاساس لحاجة الشعوب العربية ويعمل على تحقيق الاستقرار السياسي والعيش بأمان وكرامة ويحقق المصالحة بين المواطن والدولة.

ثالثاً: إن الاقتصاد المستقر للدولة يعمل على تقلّيص فرص التدخلات الخارجية وتأثيراتها السلبية، أياً كان طبيعتها ودوافعها، ما يعني ان هذه القمة ومخرجاتها لن تركز بشكل عميق على حل الازمات الداخلية للدول الاعضاء، ولن يتم التدخل او الادانة لطرف على حساب طرف اخر، وهذا ينسجم بشكل او بآخر مع عودة سوريا للجامعة العربية والتصالح مع بشار الاسد، ويعطي مفاتيح حلول للازمات الداخلية العربية بعيدا عن التدخلات الخارجية.

مع ذلك يبقى الاطار الحاكم للقمة ومحركاته الاساسية والحضور السوري والاوكراني له تداعيات مهمة ستنعكس بشكل فاعل للمرحلة القادمة، لكن ليس بمستوى الطموح او القطع بأن هذه المتغيرات والمعطيات التي سبقت ورافقت قمة جدة ستؤول الى ايجاد حلول مشتركة للقضايا العالقة، لكن اهم المعطيات في كل ذلك هو عودة الدفء المؤقت والنسبي في العلاقات العربية لغاية الان، دون اي ضمانات الى عودة التوتر والبرود اليها مرة اخرى.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2023Ⓒ
http://mcsr.net

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي