موسكو وتغيير قواعد اللعبة في سوريا
عريب الرنتاوي
2015-09-22 04:04
نعرف أن روسيا قد دخلت بقوة على "خط" الأزمة السورية، بيد أننا لا نعرف مالات هذا التدخل ولا الحدود التي سيبلغها، ومن باب أولى، لا نعرف الآثار والنتائج التي ستترب عليها، إن على مستوى الأزمة السورية، أو على علاقات القوى وتوازناتها الإقليمية والدولية.
منذ اندلاع الأزمة السورية قبل أزيد من خمس سنوات، انتهجت روسيا "خياراً استراتيجياً"، نهض على جملة ثوابت منها:
(1) تقديم أولوية الحرب على الإرهاب على أجندة الإصلاح والتغيير...
(2) حفظ وحدة الدولة السورية وصون مؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية...
(3) رفض خيارات الحسم والتدخل العسكريين، والإصرار على الحل السياسي لسوريا...
(4) تنويع وتوسيع شبكة الاتصالات والحوارات، سواء مع القوى السورية المحلية أو على مستوى الإقليم والمجتمع الدولي، وبصورة تساعد على تمكين موسكو من القيادة بأدوار الوساطة والتجسير وبناء التوافقات.
لم تؤخذ هذه المواقف و"الثوابت" على محمل الجد من قبل أطراف سورية وإقليمية (وحتى دولية) عديدة، وانعقد الرهان باستمرار على أن موسكو ستغير موقفها في نهاية المطاف، وفي هذا السياق، جربت دول عربية ثرية أسلوب "شراء الدعم الروسي" لخططها ومشاريعها في سوريا، فإن تعذّر ذلك، فلا أقل من شراء "صمتها" و"حيادها"... تقارير سياسية وإعلامية "مسربة" لطالما تحدثت عن "تغير وشيك" في المقاربة السورية، ووفود المعارضات السورية إلى موسكو كانت "الأكثر خفّة" وتسرعاً في استنتاج قرب حدوث هذا "الانقلاب" في مواقف سيد الكرملين.
موسكو من جانبها، لم تتوقف عن إرسال الإشارات الدالة على ثبات وديمومة مواقفها من الأزمة السورية، وفرت الحماية الدولية للنظام السوري، وتصدت لمحاولات "تجريمه" في مجلس الأمن، واستمرت في تزويده بالسلاح والعتاد والتدريب، إلى أن قررت "الحضور" مباشرة على الأرض السورية، ورفع مستوى وسوية شحنات السلاح والعتاد، ونشر عناصر مقاتلة على الأرض، والشروع في بناء قواعد انتشار جديدة وتوسيع القواعد القديمة وتجهزيها لغرض القيام بمهام حربية.
اليوم، بات الوجود العسكري الروسي في سوريا، "عامل تغيير لقواعد اللعبة في سوريا"، من شأنه أن يرفع من مستوى الإسهام الروسي في تقرير اتجاهات تطور الأزمة السورية، ويملي على مختلف اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، المرور بموسكو قبل الذهاب إلى دمشق أو ما يحيط بها من عواصم المنطقة... روسيا من الآن وصاعداً، ستعلب دوراً مقرراً في تحديد مستقبلات الأزمة السورية، بصورة توازي الدور الأمريكي إن لم نقل تتخطاه.
وإذ تُجمع القراءات للخطوة الروسية على أنها دليل "حزم" و"إصرار" على كسب المعركة في سوريا، فإن إجماع هذه القراءات، يذهب أيضاً للتأكيد على استمرار حالة "التردد" و"الانسحابية" التي ميّزت المقاربة الأمريكية حيال سوريا... ولعل التزامن بين "التحشيد العسكري" الروسي على الشواطئ السوري من جهة، والكشف الأمريكي عن دخل (4 -5) مقاتلين معتدلين ميدان الحرب على "داعش"، بعد عامين من إقرار برامج تدريب المعارضة المعتدلة ورصد نصف مليار دولار، لتمويل هذا البرنامج... نقول أن هذا التزامن، يصلح كشاهد ودليل على البون الشاسع بين المقاربتين.
والحقيقة أن لروسيا دوافع وأهداف في سوريا لا تتوفر للولايات المتحدة، موسكو ترى أن سوريا والعراق، هما خط الدفاع الأول عن أمنها واستقرارها، لا في القوقاز والجمهوريات السوفياتية السابقة فحسب، بل وفي روسيا ذاتها كذلك... وسوريا بالنسبة للكرملين، هو البوابة وموطئ القدم في "المياه الدافئة"، وفي سوريا وعليها تتقرر نتاج معركة الغاز والأنابيب التي ينخرط فيها منتجون ومستهلكون كبار في العالم، وسوريا بعد القرم، باتت عنواناً للنجاح أو الفشل في الحكم على تجربة روسيا الصاعدة على الساحة الدولية بزعامة فلاديمير بوتين.
الولايات المتحدة التي أبدت ضيقاً بالخطوة الروسية علناً، عادت لتجنح لاقتراح موسكو "إجراء تبادل للرأي" حول الأزمة السورية والحرب على الإرهاب... والمؤكد في غياب الخيارات والبدائل الأمريكية، أن يكون لروسيا الدور المؤثر في تقرير شكل ووتيرة الحل السياسي للأزمة السورية، وسيساعدها على ذلك، ما تشهده عواصم القرار الأوروبي من تحولات وتغيرات في مقارباتها للأزمة السورية، مقتربة أكثر من أي وقت من المقاربة الروسية.
من الآن فصاعداً، لن تنتظر موسكو دعوة من أحد، للانخراط في تقرير مستقبل سوريا، سياسياً وميدانياً... وسيتعين على مختلف الأطراف المنخرطة في هذا الصراع بأي صورة من الصور، أن تمر بموسكو للوقوف على وجهتها وتوجهاتها، وستتسع مساحة الطمأنينة والمرونة للنظام في دمشق وحلفائه في الإقليم، وسنرى أثر ذلك على جبهات القتال المشتعلة، مثلما سنرى أثرها في مهمة ديمستورا، وربما قبل نهاية العام الجاري.
هل "الأفغنة" سيناريو واقعي لسوريا؟
ما أن انتشرت أنباء الحشد العسكري الروسي في سوريا، حتى تطايرت التحليلات المحذرة من ولوج سوريا طريق "الأفغنة".... خصوم روسيا بالذات، سارعوا للتبشير بسقوط الكرملين في مستنقع سوريا الذي لا شفاء منه، مذكرين بسقوط الاتحاد السوفياتي السابق وتفككه، في أوحال أفغانستان وكهوفها.
هل "الأفغنة" سيناريو واقعي لسوريا؟
ظاهرياً، تبدو المقارنة مغرية للباحثين والمحللين، فثمة قاسم مشترك بين التجربتين: "المجاهدون" في أفغانستان، ووريثتهم الشرعية غير الوحيدة، "داعش" في سوريا... مع ترجيح لكفة هذا الاحتمال، في ضوء نجاح "داعش" في حشد القوى وفرض السيطرة على الأرض، بما لم يتح للقاعدة والقوى المشكلة لها تحقيقه من قبل.
لكن هذه القراءة الظاهرية، تخفي قصوراً في الولوج إلى عمق المسألة... بين التجربتين مسافة من الزمن تمتد لأزيد من ربع قرن، وضعت خلالها الحرب الباردة أوزارها، وتغيرت قواعد اللعبة والعلاقات الدولية تغيراً جذرياً... في أفغانستان استبطنت المواجهات الروسية – الجهادية، حرباً بالوكالة بين موسكو وواشنطن، وخلف كل من العاصمتين، وقف محور دولي وإقليمي وازن، وحلف عسكري ضارب: الناتو ووارسو... أما في سوريا، فقد تتوفر لأول مرة منذ الحرب على النازية، الفرصة لمشاهدة قوات أمريكية – روسية، تقاتل من الخندق ذاته، عدواً مشتركاً... النازية وحدت الجيش الأحمر بقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، و"داعش" توفر فرصة لورثة الجيش الأحمر للقتال إلى جانب قوات التحالف بزعامة الأطلسي في الحرب الكونية على الإرهاب... المشهد مغاير تماماً.
في أفغانستان، وقفت غالبية دول الإقليم والعالم إلى جانب "المجاهدين" ضد "الخطر الشيوعي"، تجندت أجهزة مخابرات دول عربية وإسلامية كبرى، وعواصم دولية وازنة، لتجنيد "المجاهدين" ونقلهم وتدريبهم وتسليحهم وتمويلهم... اليوم، تقف غالبية دول الإقليم، في صف واحد ضد "الخطر الجهادي"، بوصفها تهديداً لأمن الإقليم والعالم... فيما الدعوات لا تتوقف عن تقطيع أوصال "داعش" وتجفيف منابعها ومواردها، وتنخرط باستمرار دول وجماعات في الحرب على الإرهاب... وكثير من الأطراف العربية والإسلامية التي ناصبت "السوفييت" العداء في تلك الأزمنة، تبدو اليوم، على صلة وثيقة بالروس، من القاهرة إلى الرياض مروراً بعمان وأبو ظبي وغيرها.
استقطابات الحرب الباردة وتحالفاتها، لم تكن تسمح بتوصل الفرقاء إلى حلول سياسية وسطية أو توافقية... كانت الحرب في أفغانستان بمثابة معركة "كسر عظم" بين معسكرين... في سوريا، لا تكف الأطراف الدولية الكبرى وكثير من العواصم الإقليمية الفاعلة، عن التبشير بضرورة السير على مسارين متلازمين: الحرب على "داعش" والبحث عن حل سياسي للأزمة السورية... وثمة إرهاصات شديدة الدلالة، على عمق التحوّل في مواقف وأولويات الاتحاد الأوروبي تحت ضغط طوفان الهجرة واللجوء من جهة وتفاقم خطر الإرهاب من جهة ثانية، فضلاً عن السياسة الأمريكية الآخذة بالتبدل بتسارع ملحوظ، ودائماً بالاقتراب من الرؤية والمقاربة الروسيتين، وليس بالابتعاد عنها أو الصراع معها.
ثمة بعد آخر لا يجب إغفاله بحال، ونحن ننظر في احتمالات انزلاق سوريا في "سيناريو الأفغنة"، وبالتالي تورط روسيا في دهاليزها وأوكارها، وأعني به، "العامل الإيراني"، ذلك أن عدداً من العواصم العربية والإقليمية، تنظر بارتياح، أو على الأقل، بقدر قليل من القلق، إلى "التورط الروسي" في سوريا، بوصفه أداة لإضعاف الدور الإيراني فيها... الرياض على سبيل المثال، تفضل استئثاراً روسياً بسوريا، يكون بديلاً عن ارتهان دمشق للسياسات والمصالح والحسابات الإيرانية، حتى بوجود خلاف سعودي – روسي حول مستقبل الأسد، أو دور الأسد في مستقبل سوريا... إسرائيل بدورها، تفضل من وجهة نظر نظرية الأمن القومي، توسيع النفوذ الروسي على حساب النفوذ الإيراني في سوريا، فهي هنا على الأقل، ستكون مطمئنة إلى أن موسكو لن تندفع في تسليح وتدريب حزب الله وحماس أو أية فصائل وأحزاب مندرجة في إطار ما بات يعرف بـ "معسكر المقاومة والممانعة".
معنى ذلك، أنه في ظل تراجع فرص الحسم العسكري للأزمة السورية، ومع تنامي خطر "داعش" وتهديد الإرهاب المستوطن والمنبعث من سوريا، وفي ضوء طوفان الهجرة واللجوء، فإن كثير من عواصم الإقليم (الرياض، تل أبيب، أبو ظبي، عمان) وغيرها، لن تجد مشكلة في القبول أو التكيف مع "التورط الروسي" في الأزمة السورية، طالما أنه سيضعف تلقائياً، نفوذ إيران وتأثيرها في تقرير مستقبل سوريا.
ولهذه الأسباب مجتمعة بالذات، سيكون من الصعب ترجيح "السيناريو الأفغاني" لمستقبل سوريا، أو لمستقبل الدور الروسي فيها... وأغلب ما يكتب ويقال في هذا الصدد، يصدر إما عن تعجّل واستخفاف أو ربما عن "تفكير رغائبي" لأصحابه، ممن ما زالوا يراهنون على خيارات الحسم العسكري والتدخل الدولي لإسقاط النظام وتنحية الأسد.