دول القوقاز والحرب الروسية الاوكرانية.. ارتباط المواقف بالمصالح
د. قحطان حسين طاهر
2023-06-04 06:45
تشمل دول القوقاز كل من جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، وسُميت بهذا الاسم نسبة الى منطقة القوقاز الواقعة بين البحر الاسود وبحر قزوين وتمثّل هذه المنطقة الحدّ الفاصل بين غرب آسيا وشرق اوروبا وكانت منطقة القوقاز محلّاً لأطماع القوى العالمية والإقليمية بسبب اهميتها الاستراتيجية والاقتصادية.
لمّا اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية كان لها انعكاسات واضحة على دول القوقاز، فقد حملت هذه الحرب مخاطر جسيمة على جورجيا، إذ اثّرت تفاعلات هذه الحرب في الشؤون الداخلية لجورجيا وبدأ الانقسام الداخلي الجورجي تجاه هذه الحرب واضحاً، فهناك جزء من الجورجيين انضم الى فيلق الاجانب كمتطوعين يقاتلون الروس الى جانب القوات الأوكرانية كتعبير عن التعاطف مع اوكرانيا ورغبة في الانتقام من روسيا، بينما سعى القسم الاخر من الجورجيين الى المحافظة على الاستقرار الذي تنعم به بلادهم منذ ان تمّ التوصل الى تفاهمات بين روسيا وجورجيا في عام 2018 تتضمن اعادة العلاقات بين البلدين بعد ان شهدت توترا مستمرا منذ 2009.
ان الانقسام الجورجي تجاه الحرب الروسية الأوكرانية يعبّر عن تنازع اتجاهين داخل جورجيا: احدهما يتبنى فكرة الاستفادة من انشغال روسيا بالحرب مع اوكرانيا واستغلال هذه الفرصة لتسريع الانضمام الجورجي الى الغرب، بينما يرى الاتجاه الثاني بضرورة التزام الحياد وعدم الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا، وتبنّى حزب (حلم جورجيا) الحاكم برئاسة (زورا بشيفيلي) نهجا حكيما في التعاطي مع الحرب الروسية الأوكرانية، اذ رفضت جورجيا ارسال اسلحة الى اوكرانيا او فرض عقوبات على موسكو رغم انها تطمح الى دخول الاتحاد الاوروبي والتوائم مع سياسته.
ويبدو واضحا ان صراع النفوذ بين روسيا والغرب خلّف حالة من عدم الاستقرار في جورجيا ادت الى اندلاع تظاهرات بعد تبنّي البرلمان الجورجي قانون المنظمات الأجنبية الذي ينظم عمل المنظمات الممولة من الغرب لضمان عدم تحوّلها الى واجهات للنفوذ الغربي، ورغم سحب الحكومة الجورجية لهذا القانون الا ان ذلك لم يؤدي الى ايقاف الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة الجورجية.
اما في الجانب الاقتصادي فقد استفادت جورجيا من الحرب عندما تدفقت اليها رؤوس الاموال الروسية من خلال هجرة ما يزيد عن 100,000 روسي اليها مما ادى الى نمو الاقتصاد الجورجي خصوصا بعد ان اعطت جورجيا للروس واموالهم حرية التنقل عبر حدودها مما انعش بعض قطاعات الاقتصاد الجورجي وخصوصا سوق العقارات.
البلد الاخر من بلدان القوقاز هي ارمينيا القريبة من ساحة الحرب الروسية الأوكرانية والتي بلا شك تأثرت بتداعيات هذه الحرب، اذ سعت ارمينيا بقيادة رئيس الوزراء نيكول باشينيان الى اتباع سياسة حكيمة تجاهها تضمن لها على الاقل تجنب المخاطر المحتملة أمنيا واقتصاديا والافلات من قيود الصراع الروسي الغربي على النفوذ في منطقه القوقاز، ورغم ان ارمينيا عضوا في منظمة معاهدة الامن الجماعي التي تضم ارمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغستان وطاجكستان وروسيا، الا انها ترى ان هذه المنظمة لم تقدّم لها الدعم اللازم في حربها الأخيرة مع اذربيجان مما دفع رئيس الوزراء الارميني باشينيان الى التحفظ على مواقف وقرارات هذه المنظمة وآخرها رفضه التوقيع على اعلان المنظمة الصادر في تشرين الثاني 2022، وفي 22/5/2023 صرّح رئيس الوزراء الأرميني ان بلاده قد تجمّد عضويتها في منظمة معاهدة الامن الجماعي او قد تنسحب منها اذا استمرت هذه المنظمة في عدم الوفاء بالتزاماتها تجاه ارمينيا، مبيّنا ان مستوى الثقة بروسيا قد انخفض في ارمينيا، لكن سيطرة روسيا على البنية التحتية للغاز والسكك الحديدية في ارمينيا، واعتماد الاقتصاد الارميني على روسيا قد حدّ من وجهات النظر المؤيدة لأوكرانيا بين الاوساط الأرمينية خصوصا ان ارمينيا تحتاج الى الدعم الروسي في مواجهة تركيا واذربيجان.
اما على المستوى الشعبي فيبدو ان الارمنيين منقسمون في المواقف تجاه الحرب الروسية الأوكرانية بين مؤيد لروسيا وآخر مناهض لسياستها تجاه اوكرانيا، وهذا الانقسام تقف وراءه اسباب سياسية واقتصادية في الوقت الذي لا يستبعد دور الغرب خصوصا الولايات المتحدة في استمالة اطراف سياسية وشعبية أرمينية ضد روسيا. وبشكل عام فأن الدعم الروسي لأرمينيا في حربها مع اذربيجان قد انخفض نتيجة انشغال روسيا في حربها مع اوكرانيا مما ادى الى تقوية الموقف الأذري في مواجهة ارمينيا.
في الجانب الاقتصادي حققت ارمينيا فوائد واضحة عقب الزيادة الحاصلة في التبادل التجاري مع روسيا نتيجة العقوبات الغربية على روسيا وكذلك تدفق رؤوس الاموال الروسية للاستثمار في ارمينيا وذلك بعد هجرة ما يقارب 100,000 روسي الى ارمينيا بعد اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية.
اما اذربيجان الدولة الثالثة من دول القوقاز فقد التزمت الصمت منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية ولم تعلن موقفا صريحا تجاهها ما يؤكد حرص اذربيجان على اتباع سياسة براغماتية قائمة على الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من روسيا واوكرانيا، وهذا ما تم ترجمته الى اتفاقيات مشتركة عقدتها اذربيجان مع كل من روسيا واوكرانيا على حده تؤكد على التعاون المشترك للحفاظ على امن المنطقة.
في الجانب الاقتصادي تكاد تكون اذربيجان الدولة الاكثر نفعا من انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية وذلك عندما شهدت انتعاشا في المجالات الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية، كما استطاعت اذربيجان ان تعزز موقعها لتكون ممرا للتجارة العالمية للطاقة المتجهة لأوروبا، وقد أدركت اوروبا اهمية اذربيجان فسعت الى ضمّها الى ما يسمى المجموعة السياسية الأوروبية كمحاولة من اوروبا لجذب دول الجوار الروسي نحو اوروبا وعزلها عن روسيا او على اقل تقدير كسب حيادها في الصراع الغربي الروسي.
الواضح ان العقوبات الغربية المفروضة على روسيا قد عززت من النمو الاقتصادي لدول القوقاز وان اقتصاديات هذه الدول قد استفادت من التجارة الوسيطة مع روسيا وكذلك من تدفقات رأس المال الروسي، وعملت دول القوقاز على اعادة بيع السلع المستوردة من اوروبا والولايات المتحدة الى روسيا، مما ادى الى ازدهار صناعة الخدمات اللوجستية في هذه الدول التي نشأت لتسهيل التجارة الوسيطة، مما ادى الى زيادة تدفقات رأس المال اليها الامر الذي دعم قيمة العملات المحلية لدول القوقاز مقابل الدولار الامريكي.
عموما يمكن القول ان كل من دول القوقاز الثلاثة جورجيا، ارمينيا واذربيجان لها مواقفها الخاصة من الحرب الأوكرانية الروسية، لكنها تجمعها رؤية مشتركة تتمثّل بتجنّب اغضاب روسيا خوفا من انتقام روسي سواء كان اقتصاديا او عسكريا في ظلّ محدودية قدرات هذه الدول على المناورة الجيوسياسية، كما تشترك هذه الدول في الادراك ان الحرب الروسية الأوكرانية تمثّل تهديدا خطيرا لأمنها وان استمرار هذه الحرب قد يؤدي الى انتقالها الى دول اخرى قد تكون دول القوقاز من ضمنها.