إصلاح القضاء العراقي: رؤية سياسية
ميثاق مناحي العيسى
2015-09-15 12:38
يعد القضاء السلطة الأهم من بين السلطات الثلاث، وتعد استقلاليته ضرورة لا بد منها، ولا شك بأن للقضاء اهمية كبيرة؛ لكونه يشكل الاساس الذي ترتكز عليه عملية بناء الدولة، ولعل الدول المتقدمة اليوم في انظمتها السياسية والاقتصادية، وما حققته تلك الدول من تنمية سياسية واقتصادية وتعايش مجتمعي، واستقرار سياسي، هو بفضل استقلال القضاء وإبعاده عن المحاصصة والتسيس الحزبي والطائفي، واستقلاله عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأبعاده ايضاً من كل الضغوط،؛ لأن إصلاح القضاء، هو "إصلاح للأمة" كما يقول الامام علي (ع)، وهو إصلاح للدولة بكل مؤسساتها، وعملية للشروع في بنائها.
إذ يمثل القضاء القاعدة الاساسية التي ترتكز عليه الدول في بناء كيانها الدولتي والمؤسساتي. ولطالما كان القضاء العراقي في مرحلة ما قبل 2003 أداة بيد السلطة الحاكمة لتصفية الخصوم، فقد استبشر العراق خيراً ما بعد التغير، وبعد وضع الدستور العراقي وتشكيل الحكومة العراقية. إذ نص الدستور على شكل النظام السياسي العراقي القائم على اساس الفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية، وهذا لم يبتعد عن كون الكلام حبراً على ورق، إذ سُيس القضاء وسُخر لصالح السلطة أو الشخص الحاكم، والاحزاب السياسية والمتنفذين واصحاب الولاءات الشخصية.
وكذلك خضع القضاء كما هو حال كل مؤسسات الدولة إلى المحاصصة الطائفية والحزبية؛ ليتهم بعد ذلك بأنه أداة خاضعة للسلطة التنفيذية، لا سيما في عهد الحكومة السابقة، حتى صار القضاء العراقي شأنه شأن كل مؤسسات الدولة ودوائرها التي نخرها الفساد والطائفية والمحسوبية والترهل، ليصل ما وصل عليه اليوم، وأصبح القضاء اليوم المتهم الرئيس في فساد منظومة الدولة العراقية؛ بسبب ابتعاده عن المهنية والاستقلال وتغيب دوره الرقابي، وملاحقة المفسدين.
وفي ظل الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات المتصاعدة التي سئمت الواقع السياسي والأمني وسوء الحكم والإدارة وتفشي الفساد في كل مؤسسات الدولة العراقية بما فيها القضاء العراقي، وهي احتجاجات تعبر عن رفضها لواقع العملية السياسية الهزيلة والواقع السياسي والاقتصادي للحكومة العراقية في ظل غياب الحلول الحقيقية للازمات السياسية والاقتصادية، وابتعاد السلطة القضائية عن دورها المطلوب، وعدم تفعيل دورها الرقابي، الذي تسبب في استشراء الفساد، وتسيس مؤسسات الدولة، وسرقة المال العام، ليصبح احد ابرز مطالب المتظاهرين، هو المطالبة بإصلاح المنظومة القضائية واستقلالها، وإبعادها عن المحاصصة الطائفية والحزبية.
لتتعالى فيما بعد مطالب المتظاهرين، ومطالبتهم بإقالة رئيس مجلس القضاء الأعلى ‘‘مدحت المحمود‘‘ الذي يعده البعض بأنه رأس الفساد في المنظومة القضائية، وإصلاح القضاء من الفساد وهيمنة السلطة التنفيذية عليه، وقد ساند هذا المطلب الجماهيري المرجعية الدينية في النجف الاشرف متمثلة بمرجعية ‘‘السيد السيستاني‘‘، التي طالب بشكل صريح في خطب الجمعة بضرورة إصلاح القضاء العراقي؛ لأنه يمثل الركيزة الاساسية في إصلاح الدولة العراقية وإصلاح الحكومة والمجتمع والعملية السياسية برمتها.
هذا المطلب لم تستطع الحكومة العراقية من الاستجابة اليه بحجة الدستور، وعدم وجود آلية واضحة لحل مجلس القضاء العراقي في الدستور العراقي، وأنه ليس من صلاحيات الحكومة العراقية حل المجلس. هذا التهرب من المسؤولية في إصلاح القضاء العراقي، زاد من إصرار المتظاهرين في المطالبة بإصلاح مجلس القضاء وابعاد مدحت المحمود من رئاسته، في ظل اسناد مرجعية السيد السيستاني لهذا المطلب.
وعلى ما يبدو أن هذا الاصرار من قبل المتظاهرين والمرجعية الدينية حرك الإرادة الإقليمية؛ للحفاظ على المنظومة القضائية الحالية، من خلال الضغط على بعض القيادات التي اصبحت تمتلك كاريزما ملهمة لدى الشعب العراقي بسبب قيادتها لقوات ‘‘الحشد الشعبي‘‘، متمثلة بالزيارة الأخيرة للسيد الامين العام لمنظمة بدر ‘‘هادي العامري‘‘ والسيد نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي ‘‘ابو مهدي المهندس‘‘، إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى ‘‘مدحت المحمود‘‘، واللذين أبديا دعمهما الكامل للقضاء ورئاسته واستقلاله، وعدم السماح لأية جهة التدخل في استقلاله، مستنكرين ما يثيره البعض ضد القضاء.
هذه الزيارة ربما كان الغرض منها هو تهدئة للمتظاهرين، وامتصاص غضب الشارع؛ نتيجته للشعبية الجماهيرية التي يمتلكها كلاً من "العامري والمهندس" لدى المتظاهرين، الذين هتفوا بأسمائهم في بعض التظاهرات تأييدا لحملتهم وقيادتهم الحرب ضد تنظيم "داعش"، وطالبوهم بقيادة الحملة ضد الفساد السياسي على غرار حملتهم ضد التنظيم المتطرف. وهذا ما فسر على أنها وسيلة ضغط من قبل القيادة الإيرانية على حلفائها في امتصاص غضب الشارع العراقي على السلطة القضائية؛ مستغلة بذلك الدعم الشعبي للسيد هادي العامري والسيد المهندس، وقربهم من القيادة الإيرانية، التي تمدهم بالدعم العسكري واللوجستي ضد تنظيم "داعش".
وهو ايضاً جزء من عملية الصراع والتنافس بين مرجعية النجف الاشرف ومرجعية إيران؛ لأن مرجعية النجف داعمة لهذه الإصلاحات، والتي طالبت علناً بإصلاح القضاء العراقي. فكيف بالعامري والمهندس أن يقوما بهذه الزيارة ويبديا دعمهما الكامل للقضاء؟؟. على الرغم من أن كتلة بدر النيابية اكدت الاربعاء، أن زيارة امين عام منظمة بدر النائب هادي العامري بصحبة نائب الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس ليست زيارة لشخص رئيس مجلس القضاء الاعلى ‘‘مدحت المحمود‘‘، بل أن الزيارة طبيعية تناولت العلاقة بين الحشد الشعبي والقضاء العراقي، متناولة موضوع حقوق المتطوعين في الحشد الشعبي القانونية وطرح افكار جديدة لأخذ راي القضاء العراقي بتلك الحقوق.
كذلك الحال بالنسبة لهيئة الحشد الشعبي التي بينت موقفها من هذه الزيارة ومساندتها للإصلاح، مؤكدة على اهمية الإصلاح ودعمها للسلطة القضائية مقابل ما اسمته بـ"الدعوات المتطرفة"، مؤكدة أنها مع الإصلاح وضد "المفسدين"، التي تريد الهدم والتشكيك بكل الأحكام السابقة التي صدرت عن السلطة القضائية، وهي بذلك تدعو الى اطلاق سراح الإرهابيين والقتلة وتشكك حتى في حكم إعدام الطاغية صدام، حسب رأي الهيئة. وهذا ما تكلل بالفعل في تعليق ما يسمى بالحشد المدني الداعي إلى التظاهرات من تعليق تظاهراتهم والمطالبة بالإصلاحات إلى اشعار آخر.
هذه الزيارة يربطها البعض ايضاً بالإرادة الإقليمية الضاغطة، وزيارة السيد المالكي للجمهورية الإيرانية واللقاء المنفرد الذي جمع بين السيد الخامنئي والمالكي، لا سيما بعد تقرير لجنة سقوط الموصل. وهو ما فّسر على أن تلك الزيارة هي من اجل الحفاظ على السلطة القضائية الحالية التي تربطها علاقة قوية بشخص المالكي، وهي جزء من صراع النفوذ غير المنظور بين مرجعية النجف وايران، من اجل تبرئة بعض من ورد اسمائهم في تقرير لجنة سقوط الموصل، وأن تكون لها الكلمة العليا على بعض القادة السياسيين؛ لأن ابعاد السلطة القضائية عن الإصلاح، يعني استمرار الدور القيادي للمتنفذين في خرق المنظومة القضائية، واستمرار للفساد واستغلال السلطة القضائية من بعض القوى السياسية والاحزاب المتنفذة على مدار السنوات الماضية.
كذلك إصلاح القضاء يعني كشف الفساد الحكومي والحزبي ومحاسبة المقصرين على مدار الحكومتين السابقتين، وهو ما لا تستسيغه بعض القوى والاحزاب السياسية، المدعومة إقليميا خشية من كشف الكثير من الملفات وتحملها المسؤولية بذلك، مما يتسبب بخسارتها لقاعدتها الجماهيرية، وتفكيك بنيتها الحزبية التي بنتها على مدار الفترة الماضية، وهذا بالتأكيد يعني الفشل للحقبة السابقة في إدارة الدولة، وهو بالتأكيد فشل سياسي لها، وللدعم الإقليمي على مدار تلك الحقبة.
وهذا يعني استمرار للفساد والترهل وهدر المال العام وعدم محاسبة المقصرين وهدم المنظومة القضائية بإبعادها عن دورها الرقابي في تقويم الدولة العراقية، واستمرار الفساد السياسي والمالي والاقتصادي، وتفاقم الازمات، وبالتالي عدم قدرة القوى السياسية على بناء الدولة نتيجة هذا الوضع المتأزم، مما قد يتسبب بثورة شعبية كبيرة تهدد كيان الدولة العراقية برمتها، وقد تتأزم الأمور نتيجة السخط الشعبي المتصاعد من الحكومة العراقية والقوى السياسية في ظل تسويف مطالبهم الداعية إلى إصلاح القضاء، وإصلاح منظومة الدولة العراقية بالكامل.
وعليه ففي ظل استمرار هذا الوضع، ربما تترتب تداعيات خطيرة على مستقبل العملية السياسية، فإذا ما أرادت الحكومة تصحيح مسار العملية السياسية بمفاصلها كافة، وتدارك تلك التداعيات الخطيرة، يفترض عليها أن تستجيب بشكل فوري وسريع للمطالب لتقويض الإرادات الخارجية، وتدارك الغضب الجماهيري المتصاعد حتى وأن قفز على الدستور أو تطلب الأمر تعديلاً دستورياً؛ لأن إصلاح القضاء بشكل جدي وصحيح بعيداً عن المحاصصة والتسيس، يعد اللبنة الأولى في إصلاح الدولة العراقية بكل مؤسساتها، ومن ثم يمكن معالجة الملفات الاخرى بشكل متدرج.
هذا الإصلاح يحتاج اولاً إلى الجرأة الحقيقية لرئيس السلطة التنفيذية والاسناد الحقيقي من رؤساء الكتل السياسية لا سيما الكتل الشيعية، والابتعاد قليلاً عن إرادة الدول الضاغطة خارجياً، والتخندق الحزبي والولاءات الشخصية، وتخلص الوزراء والنواب من مرجعية قادة الكتل السياسية؛ لخلق الإرادة الذاتية في دعم إصلاحات السيد العبادي، وهذا بالتأكيد بحاجة إلى إرادة وطنية لكل القوى السياسية.