لست معصوماً حتى تكون من الناصحين

محمد علي جواد تقي

2023-03-18 06:04

{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}

سورة الزمر- الآية18

اللبيب من يستمع الى ما ينفعه في دفع مكروه، او الاستزادة في العلم والمعرفة، وحتى في تصحيح بعض الأخطاء في حياته، وأرى نمواً وانتشاراً متسارعاً لهذه الخصيصة الانسانية هذه الايام مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي عندما يبحث شريحة من الناس –وليس كلهم طبعاً- عن المعلومة المفيدة، والحكمة والموعظة الحسنة، في الجانب الآخر ثمة جهات تعمل على ضخ كميات لابأس بها من المعلومات والمعارف بما بات يُسمى بـ"صناعة المحتوى" المفيد منه طبعاً، ولا علينا بالاهداف؛ ربما تكون بدافع انساني، او لحب الشهرة، او بدافع الشعور بالمسؤولية، بالمحصلة؛ نعد مواقع التواصل الاجتماعي، والانترنت بشكل عام فرصة ذهبية الى جانب فرص أخرى للباحثين عن المفيد والبنّاء، وممن تنطبق عليهم الآية الكريمة؛ الذين يتبعون أحسن القول، ثم يتخذونه ذخيرة لاعمالهم وافكارهم.

المسؤولية الاجتماعية أم الحرية الفردية

فطن "العالم الحُر" الى أن الإيمان بالحرية الفردية التي بشّرت بها النظرية الليبرالية، لم يحقق لانسان اليوم الخير والسعادة، حتى النظريات الأخرى التي تركت الانسان وحيداً في الحياة مع تصرفاته ومصيره، على أنه المسؤول الوحيد، ولا شأن للنصيحة والإرشاد به، كلها لم تجد نفعاً، لذا اصبحنا أمام ظاهرة انتشار حملات التبرع في المجتمع الغربي، لاسيما من المشاهير والاثرياء لمرضى السرطان، و ذوي الاحتياجات الخاصة، وللشباب الراغبين بمواصلة الدراسة الجامعية، بل وحتى لرعاية اللاجئين وتلبية احتياجاتهم من الدول الاخرى، والاسلامية منها، علماً أن الدوافع الاساسية للفكرة تعود الى أروقة الحكم التي وجدت أنها مهددة باقتحام الغاضبين والمضطهدين من العمال والكسبة والموظفين بسبب تدني الأجور والاستغناء بالجملة عن خدماتهم، فبالقدر الذي ينفق فيه الثري على المحتاجين ستخفض الدولة من نسبة الضرائب على استثماراته وأمواله، وهي محاولة من الدول الغربية لامتصاص نقمة الناس والتخفيف من الورم الاجتماعي بسبب قساوة الاقتصاد الرأسمالي الجشع.

وقبل اكثر من اربعة عشر قرناً من الزمان، كان العالم قد شهد ظهور نظرية المسؤولية الاجتماعية على يد نبي الإسلام، محمد، صلى الله عليه وآله، وبناءه المجتمع الاسلامي على العيش المشترك، وكل ما شأنه ربط حياة الفرد الواحد بالفرد الآخر ليكون الجميع مثل الجسد الواحد الذي "اذا اشتكى من عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"، وأن لا يعيش الفرد المسلم لوحده، بعيداً عن جيرانه، واصدقائه، واقربائه، بل حتى ممن يشترك معه في الدين والمذهب، وفي الانسانية على المدى الأبعد.

فعندما كان الفرد في المجتمع الاسلامي آنذاك ينصح أخيه المسلم في أي شيء، لم يكن ليتلقى الجواب بأن؛ "ليس هذا من شأنك"! او إن رسول الله، موجود، وهو معصوم، وقائد للأمة هو الذي ينصحني، او ثمة إماماً معصوماً هو المسؤول وليس أنت، لأن معيار آنذاك؛ الحق والفضيلة، إلا في حالات الاصطفاف بين جبهتين متحاربتين، او بوجود حالة العداء او الكراهية، كما ابتليت به الأمة طوال تاريخها، وكما حصل في المعسكرين في واقعة الطف عندما "انقطعت العصمة" بوقوع السيف بين أصحاب الإمام الحسين وأهل الكوفة، أما الحالة العامة فكانت وفق المبدأ الذي أرسى دعائمه رسول الله ضمن المنظومة الاخلاقية المتكاملة.

حواجز نفسية

كوامن النفس البشرية منطقة ذات ممرات متعرجة ومعقدة، ليس من السهل المرور من خلالها وتحقيق التغيير المطلوب او الاقناع بأمر ما، بل إن الاعتداد بالنفس وحب الذات، مما غرزه الله –تعالى- في نفس الانسان، إنما يحتاج الأمر الى التقويم والتهذيب، لذا نلاحظ الحرص في القرآن الكريم على "اللين في القول"، حتى وإن كانت الرسالة موجهة الى شخص مثل فرعون؛ {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، والخطاب موجه الى وفي آية اخرى نقرأ: {المَوعِظة الحَسَنة}، وخفض الجناح للمؤمنين (التواضع)، كما ورد النهي عن الفضاضة في السلوك، كل هذا من أجل تجسير العلاقة بين افراد المجتمع لتحقيق المطلوب من التغيير في السلوك والتفكير نحو الاحسن، أو تقويم ما يشوبه الاعوجاج او الانحراف.

في نفس الوقت؛ تبقى مسؤولية الانسان أمام نفسه والآخرين بالتفاعل مع الجديد من الرأي والنصيحة، لاسيما تلك التي تتعلق بالعلاقات الاجتماعية العامة، فثمة حالات تظهر على الساحة الاجتماعية ربما تلحق الضرر بالأخلاق والآداب العامة مما لا يمكن السكوت عليه، فيكون الشخص صاحب الحالة بمنزلة المروج لها من حيث يريد او لا يريد، هنا عليه الاستماع والاصغاء لما يقوله الآخرون في محيطه الاجتماعي، وما هي رؤيتهم التي تمثل الثقافة العامة المتأصلة في القيم والمبادئ.

لذا نحن أمام طريقين لا ثالث لهما في هذا السياق؛ إما التفاعل مع الرؤى والافكار الموجودة في الساحة الثقافية، وإما التقوقع على الذات والتوقف عند الحاجز النفسي أمام ما يطرحه الآخرون من بدائل مفيدة، أما المطالبة بأن يكون المتحدث رجلاً معصوماً عن الخطأ، وأن لا يكون قد ارتكب خطأ في حياته حتى يبادر لتصحيح أخطاء الآخرين، فهذه من الشروط غير المنطقية في العلاقات الاجتماعية، فالجميع معرضون للخطأ حتى العلماء والعباقرة والقادة المحررون، إنما يقفون في مرتبة معينة من العلم والوعي وتحمل المسؤولية فيشعرون بالواجب إزاء ابناء مجتمعهم وأمتهم، وأن عليهم الإصلاح والتغيير ما استطاعوا الى ذلك سبيلا، وتبقى الأمور نسبية، {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.

ذات صلة

الإمام علي عليه السلام وتحجيم الجبروت والطغيانعلى حكومة السيد السوداني ان تكون أكثر حذراالمطلوب فهم القرآن بشكل جديد!مَعرَكَةُ بَدر هِيَ يَومُ الفُرقَانِ العَظِيمِ حَقَاًتعلم ثقافة السؤال بداية التعليم